ركوب الدراجة الهوائية يفقدك عذريتك
كنتُ ألعبُ مع أصدقاء على شاطئ البحر، عدتُ إلى المنزل، لأجدَ أنّ جدّتي قد وفت بوعدها وأهدتني الدراجة الهوائيّة ذاتها التي كنت قد اخترتها، زرقاء داكنة، متوسطة الإرتفاع، مزيّنة بحبيباتٍ صغيرة معلّقة بشكل بهلوانيّ على قطع العجلات الحديديّة.
واو!! يا لفرحتي! أصبح عندي دراجة هوائيّة وسأتمكّن من مسابقة الشمس!
بعدَ العشاء نزلتُ الى الحارة لأتدرّب على ركوب هذا الشيء. وبعد أربعة أيام، تخلّلها العديد من المحاولات والوقعات والجروح واللطخات الزرقاء والصفراء على جسمي، تمكنتُ من تعلّم القيادة بشكلٍ جيّد.
وفي يومٍ صيفيّ سوريّ، خرجتُ مع أخي نسابقُ ما نسابقُ من أشياء. فرأتني جارتنا أم حسام.
أمّ حسام هذه سيدة تقليديّة، من سيدات مجتمع الطبقات الوسطى- العليا. إبنها الأكبر، والذكر الوحيد، حسام، كان كحوليّاً، واثنتان من بناتها كانتا موظّفتين بمراكز عالية في مؤسسات الدولة. توفي حسام فجأة بعدَ أن التهب كبده، وأصبحت أمّه أكثر تديّناً، لعلّ الله يشفع لها ولابنها عن أخطائه. كانت تصلّي عنها وعنهُ، وتقرأ الكثير جدّاً من القرآن.
لم أحبّ أمّ حسام يوماً، لكنني كنتُ أدّعي محبتها، إذ أنها قدر لا بدّ منه. وهي كانت مقرّبةً جدّاً من جدّتي وكانت تحاول دائماً أن تلعبَ دوراً إصلاحيّاً في حياتنا.
كانت أمّ حسام تمثّل بالنسبة لي كلّ تناقضات المجتمع الذي لا أفهمه. تحبّ الجيران جميعاً وتوزّع عليهم الحلويات و"سكبة الأكل" في معظم أيّام الأسبوع، وفي الوقت ذاته، كلّما صادفتها، تكون بسيرة إحداهنّ، فتلكَ التي تزوجت رجلاً يكبرها بعشرين عاماً، والأخرى التي أنجبت إبنها الأكبر بالشهر السابع ولكنّها قد تكون قد مارست علاقة حميميّة مع زوجها قبل الزواج ... وأم حسام متدينةً، لا تقطعُ صلاة وتحاولُ الإلتزامَ بكلّ ما أوصى به القرآن والحديث وبآخر التحديثات على الساحة الدينيّة من مشايخ الأزهر وغيرهم، لكن دون أيّ فهمٍ لها، وعندما كنت أسألها عن أمرٍ ما تجاوب بأنّ السؤال في الدين حرام.
كانت مدرّسةً قبلَ أن تتقاعد ولطالما كررت قصّة الطلاب المسيحيين الذينَ أجبرتهم على حضور مادة الديانة الإسلاميّة بحجّة أنّ الأديان جميعها توصي بنفس المبادئ العامّة، وكانت في الوقت ذاته لا تسمّي الجيران "المسيحيين" في حارتنا بأسمائهم، بل تقول عنهم "المسيحيين" فقط. وهذا يختصر شكل علاقتها معهم.
تضرب أمّ حسام الصبيّة التي تعيشُ معها لتعتني بها وبأبي حسام، لكنّها تعطي دروساً للعالم بالإنسانية وبطرق التعاطي مع الناس.
أشارت لنا أمّ حسام في ذاك اليوم الصيفي بينما كنّا على درّاجتينا أخي وأنا ملوحةً بيدها، وتابعنا نحن إكتشاف إحساس الهواء على مسامات وجوهنا.
وبعدَ عدّة أيّام، رأيتُ أمّ حسام واقفة على شرفة منزلها، كالمعتاد. دَعَتنا أنا وجدتي الى شرب الشاي عندها وفتحت سيرة الدراجة الهوائيّة. "انتبهي، انت بنت والدراجة الهوائيّة قد تفقدك عذريتك!" قالت. لم أفهم شيئاً، كنتُ في الثامنة من العمر ولم يكن قدّ رنّ جرس هذه الأحاديث في حياتي بعد.
كيفَ لي أن أفقد عذريتي؟ ربطتُ الأمر بمريم العذراء، فكانت هذه المعلومة الوحيدة المرتبطة بالعذريّة بالنسبة لي. وتخيلتُ أنّ هناكَ رابطاً ما بينَ البنات في هذا الكوكب ومريم العذراء وبدا الأمر منطقيّاً. السيّد المسيح هو قائد الذكور، والسيدة مريم العذراء هي قائدة الإناث وبدا الأمر منطقيّاً.
لم تعلّق جدتي على حديث أم حسام كالمعتاد. جدتي كانت أوّل دكتورة نسائيّة تفتح عيادة في حمص، لكنها لا تعلّق أبداً على ما يقولهُ الناس بهذا الخصوص أمامها. قالت لي مرّةً بأنّ العارف بالأمر لا يتباهى به، وطلبت منّي أن لا أُكذّب أحداً أو أصحح معلومة لأحدٍ إذا لم يسألني عنها.
في طريق العودة إلى المنزل، سألتُ جدّتي من ماذا يجبُ عليّ أن أنتبه كوني "بنت". ردّت عليّ بثقة أشعرتني بأمان الكوكب كلّه: "لا تنتبهي إلّا من السيارات والسقوط".
وبعدَ سنين، فهمتُ ما كانت أمّ حسام تلمّحُ لهُ في مقولتها تلك!
فقد كان هناك إعتقادٌ سائدٌ عند البعض بأنّ الرياضات التي تحتاج إلى التباعد بينَ الفخذين تفقدُ الأنثى عذريتها، ركوب الدراجة الهوائيّة أو الناريّة، ركوب الخيل، لعبة "القبّان" في الحدائق العامّة وغيرها.
سألت جدتي يومها عن مصدر هذه المعلومة وإمكانيّة وجود أفكار مازلنا نؤمن بها وستعتقدُ الأجيال القادمة أنها خرافة وتضحك علينا كما نفعل اليوم مع هذه المعلومة. قالت لي وقتها بأنّ الإنسان كان وسيبقى عدو ما يجهل، وطالما أنّهُ يجهل أشياء، سيستعيضُ عن المعرفة بنسج أو تكرار روياتٍ مرعبة وخرافيّة وغريبة.