مسلسلات الإنتاج المشترك بين الجغل واللايدي
لسنوات خلت، عانى السوريون في لبنان من الإعتداءات والتمييز وخطاب الكراهية. لم يتطوّر هذا الخطاب المعادي تارةً والتخويفي تارةً أخرى في المزاج الشعبي من تلقاء نفسه، بل نتيجة سياسات وممارسات الدولة اللبنانية وأفرقائها من جهة، وأداء إعلامي يضع اللاجئين في موضع الاتهام والشبهة.
لكنّ السنوات الأخيرة حملت معها أيضاً مفارقاتٍ عجيبة لا تحدث إلّا في بلدٍ كلبنان، إذ أنّه من الطبيعي أن تجد الكثير من المواطنين اللبنانيين يعجبون صباحاً بتغريدات وزير الخارجية جبران باسيل التحريضية على اللاجئين، قبل أن يتسمّروا مساءً أمام شاشات التلفزيون ليعجبوا بممثلين سوريين يؤدّون أدوار البطولة في مسلسلات رمضانية تنتجها شركات إنتاج لبنانية. إذ نتيجة لتردّي الإنتاج في سوريا وقلّته إثر الحرب، لجأت العديد من هذه الشركات للاستعانة بالخبرات السورية التقنية والتمثيلية في أعمالها، لتظهر مسلسلات متعدّدة تقوم على فريق عمل مشترك من اللبنانيين والسوريين، تبدأ بـ"تشيللو" ولا تنتهي مع "الهيبة" و"خمسة ونص".
وعلى الرغم من الانتقادات العديدة التي واجهتها هذه المسلسلات نتيجة ضعف الحبكة وابتذال القصّة وغباب المبرّر الدرامي (المقنع) لاختلاط اللهجات والجنسيات حتّى ضمن الأسرة الواحدة، إلّا أنّها حقّقت نجاحاً شعبياً هائلاً، وهو ما يظهر بتواجد خمسة إنتاجات مشتركة في قائمة الأكثر مشاهدة خلال شهر رمضان المنصرم، بحسب جي.اف.كي.
خلطة رومانسية تقليدية
تعتمد هذه المسلسلات على قصة حبّ تقليدية تتفرّع من حولها خطوط سردية جانبية، لكنّها تتميّز عن المسلسلات العربية والمدبلجة المعتادة بأمرٍ أساسي وهي انحصار دوريّ البطولة الأساسيين بممثل سوري وموديل/ ملكة جمال لبنانية.
يحضر هذا الشكل في ثلاثة أعمال هذا العام هي "الهيبة الحصاد" ( تيم حسن وسيرين عبد النور) و"الكاتب" (باسل خياط ودانييلا رحمة) و"خمسة ونص" (قصي خولي ونادين نجيم). تختلف هذه الثنائيات اختلافاً كبيراً في الظاهر، فهي تتنوّع بين زعيم مافيا وروائي وسياسي بالنسبة للذكور، ومذيعة ومحامية وطبيبة بالنسبة للإناث، لكنّها في المضمون تتشابه إلى درجةٍ تكاد تمحي أيّ اختلاف، كما لو أنّها نسخت بحذافيرها من الكتالوغات التي تحدّد مواصفات الشريك المثالي، لنصير أمام ثنائية الجغل السوري واللايدي اللبنانية. فالرجل وسيم الملامح، أنيق الهيئة، وافر اللذة، قويّ البنية، وهو إلى ذلك شديد الغنى وواسع النفوذ. يتنقّل بين الحزم واللين، والشدّة والانشراح. يعطي كلّ وقته وتفكيره واهتمامه وعاطفته للمرأة، لكنّه لا يتوانى عن "تأديبها" حين يلزم الأمر. أمّا المرأة، فهي بارعة الجمال ودائماً "على الموضة" في أزيائها وماكياجها، تبزّ الجميع في مهنتها، تقدسّ الحب وتعشق الحياة العائلية.
جرعة ذكورية كبيرة
في كل موسم من مواسم "الهيبة" الثلاثة "يبدّل" جبل امرأته، ويتخلى عن التي سبقتها لأن "ميتها خلصت عنا"، دون توضيح إضافي. بدوره يتنقّل يونس جبران في "الكاتب" بين الممثلة الشابة يارا، وطليقته دينا، وصولاً إلى المحامية مجدولين. وكذلك الحال بالنسبة لغمار الغانم في "خمسة ونص" الذي يجمع بين زوجته بيان نجم الدين وعشيقته عايدة في آن واحد. وعلى الرغم من هذا الحضور الأنثوي الطاغي في حياة هذه الشخصيات، إلّا أنّها لا تتوانى عن إهانة النساء في كلّ حين، مع اختلافٍ في ردّات فعل الأخيرات على ذلك. فإن كان جبل لم يضرب نور رحمة هذا العام بالحزام الجلدي، كما حصل مع سميّة في الموسم الماضي، إلّا أنّه لا يتوقف عن المزاح حول ضرورة أن تصمت وتذهب إلى المطبخ. أما يونس جبران في "الكاتب" فيهدّد زوجته طوال الوقت بسحب حضانة الولد منها، وغالباً ما يعامل النساء بفوقية. بينما يقوم غمار الغانم في "خمسة ونص" بالزواج مع عشيقته بشكل سرّي من جهة، ويعمل على تدمير زوجته بيان نجم الدين وحرمانها من ابنها وصولاً إلى قتلها إثر طلاقها منه.
وإن كانت ردّات فعل النساء تختلف في المسلسلات الثلاثة، بين الإذعان والابتسام (كما في حالة نور رحمة في الهيبة) من جهة وبين الرفض والتمرّد من جهة أخرى (كما في حالة الدكتورة بيان في خمسة ونص)، إلّا أنهنّ في النهايات جميعاً هارباتٌ من الرجل وإليه. تحتمي نور بجبل من السياسي الثري والنافذ ثروت الذي جمعتها به علاقةٌ سامة. بينما تقع بيان في غرام مرافقها جاد وصديق زوجها غمار، الذي لا يحتمل ما تتعرّض له بيان من إساءة ليحاولا الهرب معاً. أما ماجدولين فيدفعها اضطرابها النفسي وشدّة تعلّقها بيونس جبران إلى ارتكاب جرائم قتل متسلسلة بهدف حمايته.
تدور النساء طوال الوقت في فلك هؤلاء الرجال الذين يبدون مجرّد تنويعات رديئة على شخصية الجنتلمان الفظ التي اشتهر بها الممثل الأميركي هامفري بوغارت في أدواره المختلفة. لكن أليس هذا هو الطبيعي في مسلسلات تدور في فلك البحث المتواصل عن الحب والزواج؟
الصورة النظيفة
في الحقيقة تضيء بعض الخطوط الدرامية في هذه الأعمال على قضايا مهمّة كحقّ المرأة في الحضانة، كما في حالة الدكتورة بيان نجم الدين وسعيها للحصول على ابنها بعد الطلاق من غمار. لكنّها تعالج بشكل سطحي وبسيط، وذلك بسبب إهمال الخلفية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهذه الشخصيات. نحن نتفرّج على عالم مخملي متخيّل، حيث يكون من الطبيعي أن يملك زعيم مافيا وتاجر مخدّرات في البقاع اللبناني ذوقاً أرستقراطياً، كما لو أنّه لورد إنكليزي، أو أن يأتي شابٌ يتكلّم اللهجة السورية ليتزعّم حزب "الأرز" اللبناني، والأغرب من كلّ ذلك أن تجد روائياً في العالم العربي يبيع حقوق تحويل روايته إلى فيلم سينمائي مقابل مليون دولار!
لا تحيلنا هذه الشخصيات إلى أيّ شيءٍ يشبه عالمنا، لا أثر ولا تأثير للطوائف والمناطق والمجتمعات المتنوّعة في لبنان. الفقير هو فقير واحد بسمات واحدة، إن كان في أقصى البقاع أو في أحزمة البؤس المحيطة ببيروت. أما الغني فهو غنيٌّ واحد يتصرف بنسقٍ موحد، إن كان محدث نعمةٍ أو أرستقراطياً. تبدو هذه الشخصياتٌ تعيش خارج زماننا ومكاننا، في عالمٍ موازٍ وبرزخي بالكاد نميّز فيه شيئاً من حياتنا اليومية.
صحيح أنّ تجهيل انتماءات الشخصيات سمة طبعت المسلسلات التلفزيونية اللبنانية لمدّة طويلة. إلّا أنّ السعيّ الحثيث لحصر القصص في مجتمعات مخملية متخيّلة، هو أمرٌ طارئ على الأعمال اللبنانية. تدور معظم الأحداث في قصورٍ ضخمة أو شاليهات مطلّة على البحر، يمتلأ أثاثها بتحفٍ نادرة وقطعٍ غالية، ويتنقل أصحابها في سيارات حديثة. وهو ما ينسحب بدوره على الشخصيات التي ترتدي دائماً أفخم الثياب، وتظلّ دائماً قمّة أناقتها ووسامتها وجمالها، حتّى لو كانت مطاردةً من الشرطة أو من الزوج السياسي الشرير. يظلّ وجهها واحداً بمايك-آب كامل، إن كانت مستيقظةً للتوّ من النوم أو خارجةً من الحمام.
ينطلق صنّاع هذه الأعمال من فكرة "الصورة النظيفة"، ويعمد المخرجون على إبراز مظاهر الترف والثراء هذه كقيمٍ إجابيةٍ وجمالية. في "خمسة ونص" على سبيل المثال، يلجأ المخرج فيليب أسمر إلى تصوير خمسة دقائق كاملة، فيما يشبه كليباً غنائياً، للعشاء الرومانسي الذي يجمع غمار ببيان على ظهر يخت خاص يسير على صفحة الماء. تتنقّل الكاميرا بين لقطاتٍ من زواية مختلفة لليخت الضخم والفخم إلى صحون الطعام والكحول وأناقة الزوجين. يظهر ذلك أيضا مع المخرج سامر البرقاوي الذي يصوّر لقطاتٍ طويلةٍ، غير مرّة، للسيارات الفخمة في "الهيبة". يؤدّي ذلك في النهاية لا إلى فضح هزال البنية الاجتماعية لهذه المسلسلات وحسب، بل أيضاً إلى تدمير البناء الدرامي، انطلاقاً من أنّ الصورة "الجميلة" و"النظيفة" هي العنصر الأساسي في العمل.
تزييف الواقع
لخّصت الممثلة اللبنانية داليدا خليل هذه الرؤية في تغريدةٍ لها على تويتر، بعد انتقادات المشاهدين على بقاء شخصية كارين التي تؤدّيها في مسلسل "أسود" بكامل أناقتها رغم كونها مختطفة. قالت: "أنا مش أول وآخر ممثلة بلبنان والوطن العربي بتطلع بشكل لائق على الشاشة احتراماً لعين المشاهد ومش ضروري شوّه حالي كرمال أرضي البعض". يلخّص هذا الرد على سذاجته، رؤية صنّاع هذه الأعمال للدراما، كمجرد منتج استهلاكي يجذب المشاهدين عبر الصورة الفول اتش دي، والفيلات الضخمة وماركات الثياب العالمية، وبالطبع عبر لايدي لبنانية مثالية وجغل سوري مثالي.
من جهة أخرى، قد تبدو هذه المسلسلات انعكاساً للصورة التي يسعى لبنان لتصديرها عن نفسه، حيث تغيب العنصرية والفساد والطائفية والتمييز ضد المرأة والتلوّث وتدمير البيئة، لصالح أكبر صحن حمصّ وأطول سندويش لبنة والتوزير الشكلي للنساء في الحكومة ومسرحيات التعايش بين زعماء الطوائف ورجال الدين.