قَونَنة "العمل المنزلي"... عاجلاً أَمّ عاجلاً

قَونَنة "العمل المنزلي"... عاجلاً أَمّ عاجلاً

تراكمت الأدلّة والدوافع التي تُحتِّم ضرورة الشروع في إقرار قانون ينظِّم العمل المنزلي في لبنان. فلطالما عانت العاملات المهاجرات واقعاً مريراً، تمثّل في انعدام الحقوق البديهية (تقاضي الأجر، ساعات الراحة، العطلة الأسبوعية، حريّة التنقّل، الكرامة الإنسانية) وتفاقم بعد خريف 2019.

هذه مأساة... وهي نتيجة مباشرة لـ"نظام الكفالة"، الذي يحاكي العبودية بأشكالها الحديثة والمقنّعة، والذي ينتج عنه انتهاكات تطال الحقوق الإنسانية للعاملة المنزلية، على رأسها وأكثرها وقاحة حرمان العاملة من حقّها البديهي بترك العمل وفسخ العقد والانتقال إلى عمل آخر، خارج عن سلطة ووصاية "الكفيل".

إنّ العمل المنزلي – وتحديداً بشكله الذي يتطلّب الإقامة الدائمة للعاملة في منزل صاحب العمل – بلغ أحياناً ما يشبه "الاعتقال" وشمَل الإهانات والتحرّش وحتى التعذيب، ما أدّى إلى موت عاملات أو دَفَعَهنَّ للانتحار، أو في أحسن الأحوال، تسبب بتشرُّدهنَّ "هرباً" من ظروف العمل غير الإنسانية، ما عرّضهنَّ للتوقيف والمحاكمة والترحيل.

بعد خريف 2019 تفاقمت مشاكل وشوائب قطاع العمل المنزلي وتغيَّر واقعه. فالأرقام الرسمية الصادرة عن المديرية العامة للأمن العام تشير إلى أن عدد العاملات القادمات إلى لبنان تراجع من 79000 في العام 2018 إلى 6574 فقط عام 2020، بفعل الأزمة المالية والاقتصادية ووباء كورونا. كما تراجع عدد الإقامات السنوية الصادرة للعاملات من نحو 201000 في العام 2019 إلى 132000 في 2020 ليصل العدد إلى 61000 في العام 2021.

هذه الأرقام تدلّ على خسارة عشرات الآلاف من العاملات المنزليات عملهنَّ في لبنان وتخلّي الكثير من العائلات اللبنانيات عن المساعدة المنزلية بسبب انهيار قيمة العملة وتراجع القدرة الشرائية مع ارتفاع سعر صرف الدولار. إنه واقع جديد، "تأقلمت" معه مكاتب استقدام العاملات الأجنبيات للتعويض عن خسائرها، وذلك عبر تأمين العاملات الأجنبيات من داخل لبنان، أي بنقل كفالتهنّ من كفيل (أو عائلة) إلى آخر، مع ما يرافق هذه العملية من فوضى في تحديد البدل المادّي مقابل هذه "الخدمة" وبالتالي الأرباح ذات الصلة، نتيجة انعدام دور الدولة الرقابي على هذا القطاع.

دفعَت هذه الظروف، القديمة والجديدة، نحو الذروة التي رأيناها في مشهد العاملات المؤلم أمام سفارات بلدانهنَّ، بعدما فقدْنَ عملهنَّ وخسرْنَ مستحقاتهنَّ وتخلّت عنهنَّ العائلات اللبنانية وبتْنَ عاجزات عن تأمين تذكرة سفر تعيدهنَّ إلى الوطن. غادر قسمٌ كبير من دون مستحقاته، ومن بقيَ هنا بات يتقاسم الأزمة مع اللبنانيين. هكذا، توقّفت غالبية العاملات في لبنان عن تحويل مبالغ مالية إلى عائلاتها بسبب إلزامها على العمل قسراً دون أجر، وهو استغلالٌ لوضعها الهش، وكذلك بسبب انهيار العملة اللبنانية. من جهة ثانية، واجهت اللواتي تركنَ منازل كفلائهنَّ وضعاً صعباً، فتراجع مستوى عيشهنَّ إذ تخلّينَ عن المسكن الخاص لصالح العيش ضمن مجموعات توفيراً لبدلات الإيجار، واستبعدنَ الكثير من السلع الضرورية والخدمات الأساسية.

مغادرة أعداد كبيرة من العاملات وتراجع حجم الاستقدام من الخارج جعلا اللبنانيين يتوجّهون نحو اليد العاملة المحلية اللبنانية والسورية لسدّ النقص، ما يؤكد الحاجة الضرورية إلى هذا العمل رغم الوضع المذري في لبنان. ولكن حتى تلك الفئة من العاملات بدت أنها تعاني من مشاكل مختلفة وتتعرّض لانتهاكات، مثل العنف اللفظي والتحرش الجنسي، ما يشير إلى وجود نظرة عامّة خاطئة لهذا النوع من الأعمال والعاملين فيه، بصرف النظر عن جنسياتهم، وإلى أن غياب القانون هو أساس المشكلة. فالقانون نصٌ حيّ. يتغيّر ويتحرّك حسب الحاجة. وقانون العمل الذي يعود إلى عقود ماضية وإلى حقبة مختلفة بكل مكوّناتها الاجتماعية والثقافية لم يشمل العمل المنزلي لأسباب لم تعد قائمة اليوم. إذ كان ينظر إلى هذا النوع من الأعمال من زاوية متخلّفة ومتأثّرة بنظرة دونية إلى المرأة وبتقاليد بائدة من عصر الإقطاع والعبودية (في لبنان والعالم).

آن أوان قانون يكنّس نظام الكفالة إلى مزبلة المماراسات العبودية والتمييزية ويعترف بالعمل المنزلي كعمل لائق وينظّمه بطريقة عادلة، واضحة، وإنسانية.

Cameron