سيرة إمرأة عادية

تصوير طلال خوري

سيرة إمرأة عادية

غالباً ما يتمّ التركيز عندما نريد الكلام عن إنجازات النساء، على اللواتي وصلن الى مناصب عالية أو ربحن بطولات أو أحرزن أرقاماً قياسية. ننسى أننا نُقابل في حياتنا اليومية شخصيات "بطولية" ومؤثرة ومُلهمة لم يعرف بها أو سمع بقصّتها أحد.

سننشر مجموعة من السير لنساء "عاديات"، غير مشهورات أو معروفات، أبدعن في إصرارهنّ على التمسّك بالحياة.

سيدة تبدو عادية جدّاً، طولها عاديّ، حجمها عاديّ، بيضاء البشرة، فاتحة العينين. ترتدي حجاباً أبيض سوريّاً بامتياز، وقميصاً ينسدلُ قبل الركبة بقليل، وبنطالاً غامقاً. ابتسامتها توحي بالرضى، ليست حاضرة، ليست غائبة، راضية وفقط.

سميّة، أمّ لطفلين، وزوجة لحبيبٍ صار زوجاً بعد صراع قوّةٍ بين أهلها وأهله. تخلّت سميّة عن حلمها بحفلة عرس طنانه ورنانة لتوفّر بالنفقات. أمّا شهر العسل فكان أوّل مفترق طرقٍ واجهته.

اللاذقيَة كانت الوجهه التي اختارتها وزوجها. وفي اللاذقيّة أمكنُ لأشياء كثيرة أن تحصل، منها أن زوجها وقع من على حافة صخرةٍ في مكانٍ عبثيّ ما، وارتطم رأسه بالصخور، وفقد الوعي، وبعد أن انتشلهُ وأسعفته بمساعدة من كان على الشاطىء، اكتشفت أنّه أصيبَ بالشلل.

"ما تهنيت فيه، الله وكيلك"، تقولُ بغصّةٍ، "يمكن من عين حماتي"، تستطرد بشيء من التسليم.

"كنت لساتني عروس جديدة، وبنت، وزوجي ملقّح عالتخت بالمشفى وحواليه أنابيب وممرضين ودكاترة".

القدر، شيء لا يمكن فهمه أو توقعه وفي بعض الأحيان لا يمكن حتّى التعامل معه. فبعدَ أن حاربت وتنازلت ووفرت وقامت بكلّ ما تستطيع كي ترتبط بمن تحبّ، قال القدر كلمتهُ.

"صار كتير ناس تقلّي اتركيه، وأنا ضايعه، اتطلّع عليه بتخت المشفى ابكي وفكّر لمين بدي اتركه؟ كتير صعب تكوني مضطرّة تختاري بين انّك تعيشي مع اللي بتحبيه كممرضه، وبين انّك تتركيه كأنو أيّ شخص غريب".

بعد تفكيرٍ، قالت سميّة كلمتها هي أيضاً. قررت العيشَ مع من تحبّ كممرضة.

"فكرت كتير، وكنت جرّب أقلب الأدوار بيننا. دايماً كنت أعرف أنّي لو كنت أنا انشليت، كان تجوّز غيري. أمّه ما كانت أصلاً تركتله القرار. بس فكّر هيك كنت عصّب. بس بيوم خروجه من المشفى عرفت انو مابدي بعّد عنه".

عاشا معاً كما كان مخططاً، في بيت أهله. تعلّمت سميّة التدليك والتمسيج من الممرضين الذين كانوا يتابعون علاجه القيزيائيّ بالمنزل وصارت تأخذُ على عاتقها هذه المهمّة تدريجياً.

بعد سنة ونيف، أنجبا طفلهما الأوّل، وبعدها بعام أنجبا الثاني، وبعدها بقليل، اشتعلت البلاد.

"صحي النظام شردني من بيتي، بس مرّات بيخطرلي اشكره لأنّو خلصني من العيشة مع حماتي"، تقول ساخرة وتضحك!

مع بداية مرحلة القصف في سوريا وفتح تركيّا بابها للسوريين الهاربين من وحشيّة ملك الغاب، بدأت سميّة تفكّر بالهروب من سوريا.

"لو زوجي مو معاق، كنت ما خفت هالقد، اتخيّل عم تسقط قذيفة وكلنا قدرانين نهرب وهوّ لاء، ولا أنا ولا حماتي رح نقدر نشيله ونهرب فيه".

يستطيع شعراء العالم الكتابة باستفاضه عن الحبّ، أمّا سميّة، فتستطيع أن تعجنَ المستحيل وتخبزهُ لأجل ذلك الحبّ.

"دبرت طريقة، وتدينت مبلغ من أخي، بدون علم حماتي. خططت كلشي وطلعنا."

لم تتخرّج سميّة من الجامعه لكنّها وصلت للسنة الأولى -  قسم الأدب الانكليزيّ، وتخلّت عن متابعة التعليم.

"حماتي راحت تعيش مع بنتها لأنو بيتها بمنطقة مافيها قصف، ونحنا طلعنا على تركيّا".

وكانت اسطنبول هي المدينة التي تحصل فيها سميّة للمرّة الأولى على سقفٍ وباب تغلقهُ في آخر اليوم لتحضنَ من تحبّ، وتنام، دون تدخلات عائليّة مزعجة ودونَ قصف أو هواجس.

وهناك التقينا. اسطنبول.

كنتُ أبحثُ عن سيدة لتقوم بالاهتمام بتنظيف المكتب حيثُ أعمل. وصلتُ إلى رقمها، تواصلتُ معها وتواعدنا.

ومنذُ الساعه الأولى، كان اسم زوجها يتردد. تعرّفتُ إلى أطفالها وزوجها وشاركتني صورهم. لم تكن سميّة تريدُ لزوجها أن يعرف أنها تقومُ بتنظيف المكاتب والمنازل، كي لا يشعر بالاحراج أو يشعر بالتقصير أكثر بحقّها، أو يتذكّر شللهُ.

فكانت تستيقظُ صباحاً، في السادسة، تحضّر الفطور، ترسل الأطفال للمدرسة، تشرب معهُ قهوة الصباح، ثمّ تخرج للعمل.

تعود الساعه الخامسة مساءً. لتستحمّ وتحضّر الغداء للعائلة وتعتني بزوجها قبلَ أن تسقطَ متعبةً لتعاود الكرّة في اليوم التالي.

"أوّل شي ما قلتله اني بنضّف بيوت، كنت قلّه بشتغل بمكتب. لهيك كنت كلّ يوم الصبح ظبّط حالي وكأني عنجد بشتغل بمكتب".

كيف بتلحقي على كلّ هاد؟ سألتها.

"طالما حماتي بعيدة عنّي، بلحّق عَ أكتر من هيك". أجابت وضحكت.

في أحد المرّات تطرّقت سميّة إلى أنّ الجنس بينهما رائع، وأنها في بعض الأحيان تشعر بأنّ شللهُ جعلَ للأمر طقوساً خاصةً باتت سميّة تحبّها وأنها تشكر الله بأنها لم تتركه.

كانت الخطَة واضحة جدّاً أمام سميّة: تركيا ليست أكثر من محطّة، لذا كان على كلّ شيء أن يكونَ بمكانه تبعاً للخطّة.

تعمل في أماكن ومناطق بعيدة عن منزلها حيثُ لا يعرفها أحد، تحاولُ تنظيف ثلاثة أو أربعة بيوت في اليوم الواحد. أي ما يعادل الخمسين دولاراً في اليوم الواحد. تصرفُ منها المواصلات والمصاريف الأساسيّة من طعام ولباس وأدوية ومستلزمات مدرسيّة وآجار وفواتير، وتضع اسبوعيّاً مئة دولار في البنك.

السبت والأحد عطلتها الأسبوعيّة.

استمرّ الحال على ماهو عليه لمدّة عام، كان كلّ شيء يسير وفقاً للخطّة بامتياز. استطاعت في هذا العام أن تقومَ بتوفير ما يقارب الأربعة آلاف دولار. كان هذا المبلغ كفيلاً بتأمين رحلة عبور البحر إلى أوروبا، لكنّها كانت تعرفُ أنّها قد تحتاج لمبلغٍ أكبر. ولم تكن قد قررت تماماً بعد من الذي سيعبر البحر.

"مافيه حدا تاني غيره يطلع." قالت. "إذا أنا طلعت هوّ والأولاد ما رح يقدروا يدبروا حالهم، وما ببعت حدا من ولادي بالبحر لحاله، لساتهم صغار، واذا بدنا نطلع كلنا بدي اربع اضعاف هالمبلغ!".

قررت الاستمرار بالتوفير والتفكير وعدم فتح الموضوع حالياً.

لكن يبدو أن ليسَ هناك من خطّة مثاليّة. إذ قررت حماتها واخت زوجها القدوم إلى تركيّا لزيارة زوجها في أحد الأعياد.

وقتها، انهار كلّ شيء. اعتقدت سميّة أنّ بُعد حماتها عن العائلة كان ليضع حدّاً لمدى قدرتها على التأثير على ابنها. لكنّها كانت مخطئة. فبعد اسبوع من الزيارة، تركت سميّة المنزل، أخذت الأبناء معها، زوجها كان بصدد تطليقها!

قامت حماتها بزرع الشكّ لدى الزوج بأنّ سميّة تقوم بخيانته لأنّه معاق ولا يستطيع أن يكون الزوج المثاليّ وبأنها في الحقيقة لا تعمل في مكتب بل تحصل على النقود من خلال علاقاتها الجنسيّة. 

"ما تحمّلت تشوفنا مبسوطين! فوراً صارت تفتّش ورايي وتقول مستحيل تكون هالمصاري من شغل بمكتب. قالت عنّي فلتانه" تبلعُ ريقاً ثقيلاً، "وهوّ ما دافع عنّي".

لم تشأ سميّة أن تخبر عن حقيقة عملها، فارتبكت في هذا الجدل مما أضعف موقفها.

"ما كنت قادرة احكي الحقيقة. زوجي رح يكرهني ويقلّي نكستي راسي، ومابدَي يوصل خبر لأهلي بسوريا إنّي عم نضّف مكاتب وبيوت ويصيروا الناس يعيروهم، الكلّ بقول الشغل مو عيب، بس الكلّ بعيّب تحت الطاولة".

بكت سميّة بحرقة. كانت تتخيّل شكلَ الزوجة الجديدة التي ستقومُ حماتها بتزويجها للزوج. "أكيد رح تلاقيله عروس أحلى منّي، يمكن أطول ويمكن تعجبه أكتر، بس يا ترى رح تحبّه قدّي؟"

"بعرف أنّو هوّ بحبني وبيثق فيني، بس مو بإيده بس تحكي أمّه بصير كلامها مقدّس عنده!".

طلبت الطلاق واستأجرت بيتاً صغيراً، والفترة التي كانت يجب أن تكون زيارة عيد قصيرة للعائلة، أصبحت الشكل الجديد للحياة. وسرقَ بريق سميّة وحيويتها إلى أن أتت في يومٍ من الأيّام، وقد عادت تلك الشقيّة الخجولة المبتسمة.

  • "رجعني مبارح!"
  • ورجعتي؟
  •   بحبّه. المشكلة إنّي بحبّه، ووقت بنحبّ، بنسامح، بنسامح مهما كنّا مجروحين. كلّنا ممكن نغلط، أو نسمع للناس، خاصة اذا كانت أمّه للي عم تحكي بس وقت توّقف وزّ بيرجع لعقله. والكبرياء هون كذبة! شو يعني كبرياء اذا انا مو مبسوطة؟ الكبرياء بيجي من الأشيا للي فيننا نصلحها مع الناس للي بنحبهم.. حكيتله عن شغلي الحقيقي واتفقنا سوا ما نجيب سيرة قدّام حدا، اعتذر منّي. قلتله انّي بعرف لو كنت انا مشلولة كان من زمان تركني. وقلتلّه الله لا يحكّم حدا بحدا مغلوب على أمره.
  • وحماتك؟
  • انقلعت!! خلصوا المصاري للي كنت تاركتهم للبيت وهيّ داق خلقها من خدمته، خدمه المشلول مو سهلة، بدّك تنضفي تحته، وتساعديه يفوت عالحمّام وبدّك تطعميه وتنتبهي كلّ الوقت لحتّى ما يحسّ حاله عاجز. أنا بمزح معه وبضحك لحتّى يكون مرتاح. داق خلقها من خدمته، وقالتله بدها تروح تلاقيله عروس وترجع. وصّت الجار يدير باله عليه وتركته وسافرت. بعد ما سافرت بتلات أيّام دقلي.
  • واذا رجعت وجابتله عروس شو رح تعملي؟
  • يصطفل! هوّ اللي بده يعمل مو أنا. صار يعرف أنّو مافي حدا بحبّه قدّي، ولا في حدا رح يدير باله عليه قدّي. ووقت الجدّ الناس اللي بتوقّع مشاكل بين تنين، بتنسحب بعد ما توصّل للي بدها ياه. شوفي كيف تركته للجيران يطعموه ويشربوه.

صمتنا كلينا، وبغضبِ إمرأةٍ لا تدعي المثاليّة أبداً قالت:

  • يطلقني! بزتله الأولاد وبروح بتجوّز واحد تاني وبنطلع أنا وياه على أوروبا وبعيش أحلى عيشه، وخليه هوّ يتجوّز. مين بدها تتجوّزه وهوّ مقعد وعنده ولدين؟

بعد أشهر، اكتمل المبلغ المطلوب لعبور شخصين البحر. قامت سميّة بحساب كلّ شيء، وفّرت مبلغاً أكبر من الذي ستحتاجه لمعرفتها بصعوبة عبور شخص لا يستطيع الاعتماد الكامل على نفسه في طريق سفر خطر كهذا، ولكنها فضّلت المناورة اولاً.

أمّا عن يوم الرحلة، فقد ودّع طفليه في الصبح وخرج برفقتها في الصباح. تناولا الفطور في مكانٍ هادىء، ومن بعدها أوصلته الى القارب. هنا رفض المهرّب أن يركب زوجها، فهو بدين ومعه كرسيّ متحرّك، ولن يستطيع تحمّل مسؤوليّة شخص مشلول في القارب، يحتاج من يصعدهُ ومن ينزلهُ.

القدرُ يأكلُ دائماً من صحن سميّة فتات الخبز الأخيرة. بغضبِ مليء بالاصرار والحبّ، دفعت بكرسيّه المتحرّك بينَ الرمل والبحص المختبيء تحتَ ظلمة مياه البحر. توقفت قرب ما يمكن للقارب المطّاطيّ. سندت رأسهُ إلى كتفها، حنت ظهرها، امسكت بقدميهِ، رفعتهُ، اتكأت على المياه المالحة أن تساعدها، سندت قوّتها إلى حافة القارب وساعدتهُ على تقويم وضعيّة الجلوس. نظرت في عيون المسافرين، ونادت عارضةً أن تغطّي مصاريف رحلة من يتطوّع ليقوم بإنزال زوجها من القارب ومرافقته حتّى ألمانيا.

تطوّع شخصان اختارت سميّة واحداً منهما. قبّلت زوجها. استدارت نحو الشاطئ، وبدأت السير باتجاه الرمال الناشفة. بثيابها المبللة، بغضبها، بحبّها الاستثنائيّ وباصرارها على الوصول إلى اليوم الذي تعيشُ فيه مع من تحبّ دون متاعب، تخرجُ رويداً رويداً من البحرَ كحوريّةٍ في واحدة من الأساطير اليونانيّة.

وصلَ زوج سميّة إلى النمسا وتبعتهُ هي وطُفلاها بعدَ ثلاث سنوات. ستتابع سميّة دراستها في وقتٍ ما، وستتابعُ عجنَ المستحيل.