العبء الكولونيالي والنسوية وفق المفهوم الفرنسي
صدر في باريس هذا الصيف كتاب "جنس، عرق ومستعمرات"، الذي أعدّه باسكال بلانشار ونيكولا بانسل وجيل بويتش ودومينيك توما وكريستيل تورا.
يقارب الكتاب تاريخ الاستعمار من زاوية العنف الجنسي الذي أثّر في صيرورته، ويشكّل فرصة للتذكير بمحوريّة السؤال المتعلّق بالجسد "المحلّي"، وبالجسد "المحلّي" الأنثوي تحديداً، ليس فقط لفهم كيف يتغذّى كلّ من العنصرية والتمييز الجنسي من الآخر، بل أيضاً لتبيان كيف يمرّ الإستيلاء على الأراضي عبر الإستيلاء على الأجساد وتصنيفها عرقياً وتجريدها من إنسانيّنها.
رحلة سفاري جنسيّة
اختبر المسار الاستعماري، وبدرجة عالية، هذا السقوط المتجلّي في انتهاك الأرض – الجسد، مع تأسيسه بيروقراطية فعلية للجنس وخلقه فئة خاصة من النساء سُمّيت بالفتيات الخاضعات. هكذا طوّرت فرنسا في الأراضي المسلوبة في شمال أفريقيا نظاماً مُمأسساً للدعارة وهرميةً اجتماعية وعرقية. وتجسّد ذلك في بعض الأحياء، كحيّ بوبسير في الدار البيضاء في المغرب، أو في بيوت الدعارة العسكرية التي أنشأها الجيش الفرنسي في الأرياف.
في بوبسير، وفي مناخ إستشراقي، أقيمت مساحة إيروتيكية - إكزوتيكية وُضعت فيها أجساد النساء المحليّات بمتناول الزوّار. وبما أن هؤلاء ليسوا جميعاً غربيين، فُرضت هرمية عرقية عليهم. فـ"غير البيض" مُنعوا من الدخول في بعض الأيام ولم يكن بوسعهم معاشرة النساء الغربيات أو اليهوديات "العاملات" في الدعارة داخل الحيّ نفسه. كما لم يكن تواجد الزائرات الغربيات لهذا الحيّ لائقاً لعدم تناسبه مع "نوعهنّ" أو لتعبيره عن ميول مثلية محتملة لديهنّ، وغير مقبولة في تلك الحقبة.
أما بيوت الدعارة العسكرية في الأرياف، فكانت نموذجاً فجّاً للصناعة الجنسية الإستعمارية، إذ كان يُفرض أحياناً على بعض النساء فيها 70 علاقة جنسية في اليوم الواحد. ووفقاً للمؤرخة والنسوية كريستال تارو، تشكّل هذه البيوت نظام الدعارة الأكثر تمثيلاً "للطبيعة العميقة للسيطرة الذكورية والإستعمارية"، لأنها ترمز للقوة المطلقة للمستعمر ولحصانته التامة من العقاب.
هكذا ترجم نظام الدعارة الاستعماري، في ما هو أبعد من الأسباب الصحية والطبيّة المتذرَّع بها رسمياً، تبنّي التمثّلات التي كانت تُروّج في فرنسا، وترى في نساء المُستعمرات كائنات وحشية ولعوبة. فالكثير من الصور الفوتوغرافية والرسوم وأفلام السينما والبطاقات البريدية والطوابع كانت تعكس أحوال المستعمرات بوصفها أرضاً مباحةً لعلاقات جنسية سهلة وغير محدودة لا حاجة فيها لعناء التوافق. ومن هنا جاء تصنيف باسكال بلانشار للاستعمار بأنه "رحلة سفاري جنسية".
"ألستنّ جميلات؟ إنزعنَ الحجاب!"
هناك عوامل عديدة في فرنسا تربط اليوم بين الأجساد المُستعمرة والمعنّفة سابقاً وبين أجساد ما بعد الإستعمار، التي لا تُعدّ متجانسةً مع قيم الجمهورية الكونية. الحالة الفرنسية مثيرة للإهتمام بهذا المعنى في علاقتها المركبّة مع بعض القضايا النسوية، وفي ازدواجيتها حيال المواطنين المتحدّرين آباؤهم أو أجدادهم من بلدان الاستعمار السابقة. وهي مثيرة أيضاً لما يضاف الى ديناميّاتها من قلق جماعي يحييه ظهور الدين الإسلامي في حيّزها العام، ومن عداء بنيوي لرجال الدين في ثقافتها.
فتحت مسمّى الحرية، يتداخل تواطؤ جزء من النخب الفرنسية مع مسائل العنف الجنسي مع رغبة ذكورية لا واعية بالهيمنة، ترى في أجساد الآخرين أراضي لاحتلالها. ونلاحظ الكثير من النفاق في بعض الخطابات السياسية و/أو الإعلامية التي يلقيها رجال يعتبرون أنفسهم من روّاد الدفاع عن حقوق المرأة عندما يتعلّق الأمر بمهاجمة الحجاب الذي ترتديه مسلمات فرنسيات، وهم في الوقت عينه يراوغون إذ يتحدّثون عن حملة "أنا أيضاً" ويعتبرونها ثمرة تزمّت أنجلوساكسوني لا يتماشى مع الحرية الجنسية الفرنسية المبنيّة على "الحوار" وعلى ترك هامش من الغموض الودود بين الجنسين. وبالتالي، لا يمكن للنساء التخلّص لا من نظرات الرجال ولا من عروضهم.
فهل يمكن اعتبار الأوامر الفرنسية الحالية بنزع الحجاب "نسوية"؟
ثمّة مثال يعكس الإلتباسات الفرنسية حيال هذه المسألة. فخلال حرب الإستقلال الجزائرية، كان "المكتب الخامس للعمل البسيكولوجي" يُعمّم رسائل بروباغاندا، من ضمنها واحدة موجهة الى النساء الجزائريات: "ألستنّ جميلات؟ إنزعن الحجاب!". يصعب بالطبع قراءة رسالة كهذه صادرة عن دولة جرّدت النساء المحليّات من أجسادهنّ وحقوقهنّ، بوصفها رسالة تضامن ودعوة للتحرّر وفق معايير كونية. ولعلّ مقولة النسوية المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها "الحريم والغرب" هي الأكثر دقّة في توصيف المعادلة الخاصة بالحجاب: "يبدو أن المسلمين يعبّرون عن فحولية إذ يحجّبون نساءهم، وكذلك يفعل الغربيون إذ ينزعونه عنهنّ".
واليوم، يُضاف الى النقاش السرمديّ حول ارتداء الحجاب الذي يؤطّر التجلّيات الإعلامية والسياسية للإسلام في فرنسا، ويسمح لمحافظين من كل صوب بادّعاء مصداقية نسوية، تَبلوُرُ العديد من الصور النمطية العنصرية والتمييزية جنسياً لشخصية الـ"بوريت" (Beurette). والتسمية الأخيرة، الأبوية والبطريركية، التي برزت في ثمانينات القرن الماضي لتوصيف الفرنسيات المولودات في فرنسا من أهل مغاربة، يكفي وضعها الآن في محرّك البحث "غوغل" للوقوف على مدى بورنوغرافية الإسقاطات المتعلّقة بها. وهذا يشير الى أن جزءاً من المجتمع الفرنسي ما زال قابعاً داخل منظور تنميطي موروث من الاستعمار، وغير قادر على الإنفصال عنه.
المحجّبة تُقدَّم مثل الـ"بوريت" إذاً، بوصفها غير قابلة للاندماج في النسيج الإجتماعي الفرنسي. فهي ليست "متاحة" حسب المعايير الفرنسية، وشبيهتها لا تتمتّع بالأناقة المطلوبة، والإثنتان تذكّران بتابوهات ماضٍ لا يُناقش...
ترجمتة من الفرنسية: ريان ماجد