مشوار عاملات المنازل المضني مع العدالة… ضحايا الاستغلال والاتجار تعانين بصمت 

تصوير يارا أسمر

مشوار عاملات المنازل المضني مع العدالة… ضحايا الاستغلال والاتجار تعانين بصمت 

تتردّد ألف مرّة قبل أن تسألها "كيف الحال؟"، فأنت تعرف قسوة ما مرّت به، ونظراتها الحذرة تصعّب عليك مهمّة بدء الحديث بالسؤال المعتاد. "تيغست، كيف حالك؟" يخرج السؤال أخيراً، فترفع الصبيّة يدها نحو رأسها ببطء وتقول "أتذكّر.. أبكي.. وجع راس"، تنظر إليك بعيون مرهقة ثم تعيد نظرها إلى الأسفل لتسرح في "الأفكار البشعة" كما تسمّيها. هي عاملة المنزل الإثيوبية تيغست (18 عاماً) التي جاءت إلى لبنان قبل نحو عامين وخاضت أبشع التجارب التي قد تعيشها عاملة مهاجرة في بلد يمارس الاستعباد والاتجار بالأرواح بحقّ مَن يردن ممارسة العمل المنزلي على أراضيه. قيل لتيغست قبل أن تغادر بلدها مكرهةً إنها ستعمل في خدمة المنازل وستجني أجراً يكفيها لتعود إلى ديارها ولتبدأ حياةً أفضل، وزوّر مكتب التوظيف في بلدها سنّها لكي تتمكّن من القدوم والعمل قانونياً.  لكن ما كان ينتظر الفتاة القاصر (16 عاماً) عندما وصلت إلى لبنان لم يكن وارداً في حساباتها ولا حتى في مخيّلتها.تعرّضت تيغست، التي لم تكن قد أتمّت الثامنة عشرة من عمرها بعد، للاغتصاب والضرب في بيت كفيلها على مرأى منه وبإشرافه، هربت من مغتصبيها ووصلت إلى مركز الإيواء التابع لـ"كفى" بحالة مأساوية منهارة جسدياً ونفسياً. إلى جانب مساندتها على مدى أكثر من سنة، بدأنا معها مشواراً قضائياً لتحصيل ما تبقّى لها من حقوق مادية ومعنوية، مشوار أليم وطويل لم تنته فصوله مع المحاكم اللبنانية بعد.

ما جرى مع تيغست... 

عندما انتقلت تيغست للعمل في منزل كفيلها الجديد وهو رجلٌ في السبعين من عمره، قام ابن ناطور البناية (25 عاماً) حيث تعمل باغتصابها ثلاث مرّات على مدى ثلاث ليالٍ متتالية بحضور الكفيل الذي قام بتصوير الاغتصاب المترافق مع ضرب مبرح. في الليلة الأخيرة خرجت تيغست مدمّاة مذعورة تهيم على وجهها في الشوارع ليلاً من دون أن تعرف أين هي وإلى أين يجب أن تتوجّه، التقت بالصدفة بعاملة إثيوبية اخرى في الشارع فساعدتها على ركوب سيّارة أجرة أقلّتها إلى سفارة بلدها. اتصلت السفارة بـ "كفى" وأحالت لنا الصبيّة التي وصلت في أيّار عام 2019 إلى مركز إيواء العاملات المعنّفات، بحالة مزرية وجسم نحيل جداً فاقد للتوازن، وفي حالة نفسية سيئة تحت تأثير صدمة كبيرة. "أكتبي ما سأقول لكِ بالحرف، لأنني سأنسى بعد قليل" قالت الصبيّة الواصلة الى مركز الإيواء لندى، المساعِدة الاجتماعية التي استقبلتها وتابعت رعايتها منذ اللحظة الأولى. أرادت تيغست أن تدوّن كلّ ما جرى معها وأصرّت أن تُكتب قصّتها بالتفصيل، وهذا ما حصل. أدركت ندى سريعاً أنها أمام حالة استثنائية لفتاة قاصر تمّ استغلالها بأبشع الطرق، فواكبها فريق الرعاية في وحدة "الاستغلال والاتجار بالنساء" بأساليب علاجية ونشاطات ساعدتها على استعادة جزء كبير من اتزانها النفسي وصحتها الجسدية. كان الوضع صعباً في البداية، كما تشرح ندى، لكن التقدّم بدأ يظهر عند تيغست بعد أشهر قليلة، وبدأت تشارك تدريجياً بمهام الحياة اليومية مع العاملات الأخريات في المركز. لكن المسار العلاجي تخلّلته محطّات أثّرت سلباً على حالة تيغست إذ اضطرّت، خلال التحقيقات المتكرّرة معها، إلى استعادة كلّ لحظات الجريمة البشعة التي ارتكبت بحقّها في كلّ مرة خضعت فيها للاستجواب ولمواجهة مع الجاني، وقد تكرر الأمر حوالي عشر مرّات في مراكز تحقيق مختلفة، هذا إضافة إلى التأجيل والتأخير الذي يُمارس تكراراً في ملفات العاملات المهاجرات القضائية. هكذا، عاشت الضحية في كلّ مرّة مأساة ما تعرّضت له من دون أن يفكّر أحد من المحققين بتبعات هذا الأمر على صحّتها النفسية. هكذا، وبسبب بطء المسار القضائي الذي فاقمته بعض الظروف الخارجية مثل وباء كورونا، أمضت تيغست سنة وأربعة أشهر في مركز إيواء عاملات المنازل التابع لـ "كفى"، وهي أطول فترة أمضتها عاملة في المركز حتى الآن. غادرت تيغست لبنان قبل أيام محمّلة بأبشع التجارب ومن دون أن تحصّل أيّاً من حقوقها المادّية أو المعنوية، هي "لن تعود أبداً إلى لبنان ولن تنصح صديقاتها بالمجيء إلى هنا" قالت لنا قبل أن تغادر لكنها ابتسمت أخيراً عندما سألناها عمّا تريد أن تفعل عند وصولها إلى الديار، وقالت "سأحضن والداي أخيراً… وسأفتح محلّ ثياب". 

المسار القضائي: ماذا عن تهمة الاتجار بالبشر؟ 

بعد الإدّعاء على الكفيل والمغتصب، تمّ توقيف المغتصب لكن الكفيل تُرك مقابل كفالة وبسند إقامة بدل التوقيف، بعدها انتقلت قضية تيغست إلى محكمة الجنايات بانتظار استكمال المسار القضائي، علماً أن جريمة الاغتصاب عقوبتها السجن 5 سنوات بالحدّ الأدنى. لكن المسار القضائي الذي تابعته "كفى" وما زالت، تشوبه ثغرات من شأنها أن تؤثر سلباً على العاملة الضحية على الصعيدين المادي والنفسي. من الناحية المادية، وكما هي العادة، لا يأخذ المسار القضائي بعين الاعتبار أن بطء الاجراءات المعتاد في متابعة أي قضية ضرره أكبر على عاملات المنازل لأن هؤلاء، وبما أنهن غير مشمولات بقانون العمل، لا يُسمح لهن بالانتقال إلى عمل جديد من دون موافقة الكفيل فيصبحن من دون عمل ومدخول ومنزل يقطنون فيه ما يعرّضهن لشتّى أنواع المخاطر. وهذه إحدى النتائج الكارثية لنظام الكفالة المعمول به في لبنان والذي يضع عاملات المنازل في وضع استعبادي مع كفلاء يتحكّمون بمصائرهن. من الناحية النفسية، يؤدّي أيضاً هذا البطء وتكرار أخذ أقوال الضحية والمواجهات مع الجاني / المعتدي إلى خلق حالة تستعيد فيها العاملة حادثة الاعتداء بالتفاصيل ما يعيد إحياء كلّ توترات الصدمة النفسية التي عانت منها. لم تأخذ المحاكم ولا المحققون بعين الاعتبار أن الشابّة التي يستجوبونها بدم بارد كلّ مرّة ويسألونها عمّا جرى معها، يجبرونها على استعادة تفاصيل مأساوية من تجربتها تحاول هي جاهدة دفنها بعيداً في الذاكرة.من جهة أخرى، أخلّ القضاء بوصف الجريمة التي تعرّضت لها تيغست إذ ركّز على الاطار الضيق للحادثة (أي الاغتصاب) من دون التوسّع في البحث والاحاطة بالجوانب الاخرى للقضية التي يمكن أن تشير إلى لبّ مشكلة النظام القائم وهو نظام يسهّل الاتجار بالبشر وينخرط فيه. ما تعرّضت له تيغست، هو جريمة اتجار بالبشر كما يحدّدها القانون اللبناني، حيث تتوفّر عناصر الاتجار الثلاثة: فعل الإيواء واستغلال حالة الضعف (الوسيلة) بهدف استغلال العمل القسري وتسهيل الاستغلال الجنسي من قبل الغير (الهدف). إيواء تيغست واستغلال ضعفها كونها عاملة مهاجرة والاعتداء عليها جنسياً أمام عيني كفيلها وبتسهيل منه هي عناصر كافية لتثبيت جرم الاتجار بالأشخاص، وهي جريمة عقوبتها السجن من 5 إلى 15 سنة مع غرامة مالية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن طبيعة نظام الكفالة الذي يتحكّم بحياة العاملات بكافة تفاصيلها من مكان العمل والإقامة، إلى حرية الحركة والمردود المالي… يخلق الظروف المثالية للكفيل لاستغلال ضعف العاملة التي تأتي أصلاً هرباً من ظروف معيشية صعبة في بلادها وتصل إلى لبنان معدمة وغريبة في بلد لا تعرف فيه أحداً. القضاء اللبناني لم يقل كلمته النهائية بعد في قضية تيغست، وما زالت تيغست تنتظر إحقاق العدالة كما هو حال عشرات آلاف العاملات في المنازل اللواتي يقبعن تحت نظام الكفالة المسهّل للاتجار بالبشر. حالة تيغست هي حالة نموذجية لجهة تعرّضها لمختلف أوجه الاستغلال والاتجار، من هنا ندعو القضاء إلى عدم الاكتفاء بالوصف المباشر للفعل الجرمي (الاغتصاب) في قضايا مماثلة والتوسّع بتطبيق نصوص قانون الاتجار بالبشر الصادر عام 2011 أي البحث في كافّة الظروف المحيطة بالجرم والتدقيق بمساره وخلفياته، لكي لا تبقى آلاف عاملات المنازل المهاجرات من دون حماية ومن دون عدالة.

 كلّ الأسماء المذكورة في النصّ هي أسماء مستعارة.