من السرّة الى الهويّة
كانت أمّي تمزح كثيراً، فاعتقدتُ أنّها واحدة أخرى من مزحاتها. ضحكتُ بخوفٍ وطلبتُ منها أن تأخذ الأمر على محمل الجد.
كنتُ في الحضانة عندما سمعتُ كنية أمّي لأوّل مرّة، ومازلتُ أذكرُ حتى اليوم كيفَ دغدغت كنيتها عاطفتي بشعورٍ قاتم. لم أكن قد سمعتها من قبل ولم تبدُ مألوفة على أذني، فكان وقعها يشبهُ وقع طبلٍ ليسَ له صدى، قاتماً وبعيداً وموحشاً. كان مخيفاً أنني وأمّي التي هي المصدر الأوّل للإنتماء، نحملُ نسبين مختلفين. لم أكن على علم بتعقيدات الموضوع، كلّ ما كنتُ أعرفه أنّ كنيتي وكنيتها لا تتشابهان، وأنني إذ أتعلّمُ كتابة إسمي، أمّي ليست فيه، في حين أنا وأخي وأبي نحملُ نفس الكنية!
في المدرسة يعرفون أنّ هذا الصبيّ الشقيّ أخي لأننا نحملُ نفس الكنية، كذلك أبي وعمّي، لكنّ أمّي ليست موجودةً ولا يمكنني أن أثبتَ لأحدٍ أنّها أمّي.
لماذا؟ تساءلتُ كثيراً.
حاولت أميّ أن تشرح لي بأنّ الأم والأب ليسا من عائلة واحدة بل هما التقيا وقرّرا العيش معاَ وأنجبا أطفالاً، وأن الأطفال يأخذون فقط كنية الأب.
وهنا أتى السؤال البديهي الأوّل: إذا كانت الأمّ هي من تقوم بإنجاب الأطفال، فلماذا نكنّى بعائلة الأبّ فقط؟
عشتُ في هلعٍ، بكيتُ وترجّيتها أن أحملَ نسبها. شعرتُ بأنّه يمكنُ الآن لأيّ شخصٍ أن يأتي ويأخذها ولن أتمكّن من أن أثبتَ أنّها أمّي. فأنا لا أشبهها، ولا نحملُ نفس الكنية.
"طيّب أنا هيك بدّي" قلتُ في محاولة مني لإقناعها، "مابدّي كنيّة بابا، بدّي كنيتك" رددتُ بغضبٍ.
"مافيكِ"، هيك القوانين!
في صغري، كنتُ أؤمن بأنّ الذينَ عاشوا على هذه الأرض قبل أن نخلق، هم العلماء والرسل والأنبياء والصالحون من البشر فقط، لذا فإنّ كلّ ما أقروهُ من قوانين هو لصالحنا، ولذلكَ كنتُ أسأل وأستفسر وأناقشُ كي أفهم. وإذا استعصى عليّ أمرٌ، فكنتُ أعتقدُ بأنّني أصغر من أن أفهم الآن، وسأحاولُ التفكير بالأمر عندما أكبر، أو أتبنّى نظريّة أنّ "الكبار" لم يفهموا هذه القوانين جيّداً وسأنتظر حتّى أكبر لأقومَ بتغييرها.
لكنّي يومها، شعرتُ أنني وحدي في العراء وأنّ الجميع متواطؤن. كنت جالسة على طاولة المطبخ وأمي تقفُ أمامي ممسكة ركبتيّ بيديها. مسكتها من قميصها وشددتها إليّ، ضممتها وبدأتُ بالبكاء. اذكر جيداً انني بكيتُ كثيراً. حاولت أن تشرح لي التفاصيل مراراً، ولكن ماذا تعني التفاصيل لطفلة شعرت للتوّ بأنها وحدها وبأن القوانين أقوى من حبل السرّة والحياة اليوميّة.
شيء من الحقدِ عليها كان يأكلُ خلايا رأسي الصغير الذي تدور فيه كلّ تلك الأفكار، وشعرت بأنني فقدتُ الثقة بها تماماً. للأطفال قدرة عجيبة على التصديق بأنّ أهاليهم هم أبطال خارقون، لذلك فكّرت بأن أميّ لا تريدني وإلاّ كان بإمكانها تغيير الوضع.
وأنا أبكي، ممسكةً قميصها في فناء المطبخ، أخبرتها بأنني لم أعد أحبها، وأنني عندما أكبر لن أكون مثلها وسأفعل المستحيل كي لا يشعر أطفالي ما أشعر به الآن.
وها أنا هنا، بعد 25 عاماً، أكتب عن هذا الشعور وأنا مدركة بأن النسب نفسهُ هو خدعة بشريّة تفرّق فيما تفرّقُ بينَ البشر. ولكن إذا كان لا بدّ من وجوده، فليكن القانون عادلاً ومنصفاً على الأقل وليسمح للإمهاتِ بإضافة نسبهنّ أيضاً إلى تلك الورقة.