قصة نهى التي انتقلت من الرقّة الى البقاع
أغمضت عينيّ ووقفت حائرة في العتمة هذه أبحث عن ذكريات الطفولة. تسابقت الصور في مخيلتي بسرعة، وإذ بجفوني تنفتح من تلقاء نفسها، لكنّي أعود وأغلقها من جديد. وعندما طلب مني الصوت الذي يخاطبني استرجاع لحظة مؤلمة راسخة في عقلي منذ الطفولة، تذكرت اللحظة التي قام بها والدي بضربي. شعرت مجدداً بيده الضخمة تلتصق بخدّي الممتلئ، وسمعت صوته الجهوري العالي، وأتتني رائحة الياسمين ومشهد أخي الصغير يركض الى داخل المنزل.
أنا إسمي نهى (اسم مستعار)، عمري 29 سنة، متزوجة وأمّ لأربعة أطفال. ولّدت في الرّقة ولكنني عشت في الشام. كانت طفولتي تشبه طفولة معظم الاطفال من حولي. نذهب الى المدرسة وبعد انتهاء دروسنا، نلعب بالحارة، ننتظر العيد بشوق لنرتدي ثياباً جديدة ونأكل الحلويات الشامية. عشنا أيضاً لحظات رعب عندما كنا نخطئ، ونخاف من النبرة القاسية والضرب والترهيب والتهديد من أهلنا، ولم يكن بكاؤنا أورجاؤنا يُجديان نفعاً. ما كان فيني إهرب من القتلة شو ما صار، وأصعب شي كان لما رد جواب أو أرفض شي، دغري آكل الكف عبوزي!
تعلمنا على مدى السنين أن التربية الصالحة والسليمة لا تكون إلا باتباع هذا الأسلوب.
تزوجت في الثالثة عشرة من عمري من رجل بسيط يعيش واهله في منزل متواضع في الرقّة. أحببته ورضيت بكل الشروط والظروف المحيطة بهذا الزواج.
كان يعمل ويعطي مدخوله الى كبير العائلة وهو الشخص المسؤول عن مصاريف كل أفراد العائلة. لم أشعر أبداً بالاستقلالية أو بالراحة ولم أشعر برغبة زوجي في تحمّل مسؤولياته لتحسين وضعنا.
سكنّا في منزل أهله تسع سنوات، وكنت أحلم باللحظة التي سنعيش فيها وحدنا في منزل مستقل. ومع مرور الوقت، كثرت مشاكلنا وتراكمت وتعرضّت لظغوط كثيرة ولم يساندني أحد، فوجدت نفسي وحيدة.
ما كان عليّ إلا أن أترك المنزل وأولادي ولجأت الى أهلي. استقبلني أبي ووعدني أنه سيعتني بي ويصرف عليّ لكنه اشترط بقائي في المنزل مع والدتي وقال لي أنه ليس مجبوراً بأولادي وعليهم ان يبقوا مع والدهم.
أتذكر قطرات الماء وهي تنزلق على الشباك وأنا أشاهد زوجي يرحل مع أولادي من دار والدي في شتاء سنة 2011. أذكر بكاء أطفالي وتشبثهم بيدي عندما أُخذوا مني. علمت أنه بعد فترة وجيزة على هذا الوداع، سافر زوجي الى لبنان لكي يعمل وترك أطفالنا في منزل اهله.
عانيت وقتها من الارق والتوتر والحزن الشديد، الى أن شعر والدي بحالي وسمح لي بالعمل كي أخفف عن نفسي.
بقيت بعيدة عن أطفالي لمدة سنة ونصف، ولكنني حين عملت، شعرت للمرة الأولى في حياتي بالحرية والاستقلالية. أخرج من المنزل وأعود براحتي، وتلاشى الخوف الذي كان يرافقني منذ صغري عندما أكون خارج المنزل وشعرت بالثقة التي كنت افتقدها.
في حزيران 2012 وبعد ارتفاع وتيرة الحرب، لجأ أطفالي مع عائلة زوجي الى لبنان، التحقت بهم ولكنّي رفضت العيش معهم في منزل واحد.
سكنت أنا وزوجي وأولادي في بلدة قصرنبا البعلبكية، عملت وإيّاه في معمل للكبيس وكان راتبنا يكفينا كعائلة صغيرة. وبعد مرور فترة وجيزة، قرر زوجي الانتقال الى جب جنين لكي يكون بجانب أهله. وافقت! وانتقلنا بشرط ان نستأجر منزلاً خاصاً بنا الى جانب منزلهم. ولتحقيق مطلبي هذا، بدأت أعمل في تنظيف البيوت وفي الزراعة الموسمية. عارض أهلي عملي هذا لكنّي وقفت بوجههم ولم أستسلم لهم.
في صباح ماطر من شتاء عام 2014، انضممت الى جلسة حوارية مع النساء في منزل جارتي، وكانت أول جلسة أحضرها بعد رفضي المتكررّ المشاركة في أنشطة تقوم بها "كفى" داخل مجمعنا السكني لأنني كنت أستهزئ بهكذا نشاطات ولا أرى منها أي جدوى. لكنّ فضولي دفعني الى حضور هذه الجلسة.
خلالها، طُلب منّا الحفر في ذاكرتنا واسترجاع مشاهد من طفولتنا، ونطّ أمامي مشهد ضرب والدي لي.
ووعيتُ على أنني أضرب أولادي بشكل غير طبيعي، بسبب اعتقادي ان اتباع اسلوب والدي في التربية هو الانجح.
"لما تحكي معه للولد بالمنيح من دون ما تضربيه، بيسمعلك وبيتجاوب معك"، قالت الميسّرة، بعدما سردت علينا مخاطر استخدام الضرب مع الأطفال وانعكاسه على صحتهم النفسية وضرورة إيجاد طريقة أخرى لتفريغ التعب والغضب.
صرت أحضر جلسات التوعية هذه بانتظام، التي تمحورت مواضيعها حول العنف وأشكاله وكيفية حل النزاعات داخل المنزل من أجل حماية أنفسنا وأطفالنا من العنف. وصرت أيضاً أُتابع نفسياً من قِبل معالجة نفسية.
بعد مرور سنة ونصف وعلى حضوري الجلسات، أخبرونا في "كفى" أنهم سيختارون ستة أشخاص مهمتهم إعطاء جلسات داخل المجمع السكني الذي نسكن فيه. شعرت انها فرصتي لكي أنمّي قدراتي وأنشر المعلومات التي اكتستبها والتي اقتنعت بها وطبّقتها على نفسي وعلى أولادي. صحيح أنني لم أنهِ دراستي وفقدت قدرتي على الكتابة والقراءة، لكنّي اعتبرت أن هذا العرض هو فرصتي لكي أتطوّر وأتعلمّ من جديد.
أخذت دورات تقوية للغة وتعلمت الخياطة ونجحت في مهنتي الجديدة وصرت أعطي دروساً وأقوم بأنشطة للنساء داجل المجمّع السكني. ولم أتوقع أبداً هذا الكم من التجاوب والإقبال من النساء.
أشعر بالسعادة لما آلت إليه الأمور بالنسبة لي ولأولادي، وأتمنىّ أن أستطيع تعميم تجربتي على أكبر عدد من نساء المجمّع.
مشروع "كفى" هذا هو بالشراكة مع اليونسف وبالدعم من الصندوق الائتماني الاوروبي "مدد" والحكومة البريطانية.