متى تعترف الدولة اللبنانية بالعمل المنزلي؟
كما كل المهن، تأثر قطاع العمل في الخدمة المنزلية بالأزمة المالية وبانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية. وفي ظل عجز أصحاب العمل عن الدفع بالدولار غادرت آلاف العاملات الأجنبيات لبنان، بينما بقي مصير غيرهنّ معلقاً بانتظار أن تُدفع رواتبهن. ونتيجة هذا التحوّل يزداد انخراط اللبنانيات في هذه المهنة، ما يشكّل فرصة لمطالبة الدولة اللبنانية بالاعتراف بالعمل المنزلي كغيره من الأعمال وبتنظيمه أياً تكن هوية العاملات.
وتستثني المادة 7 من قانون العمل اللبناني من تسميهم بالـ"خدم في بيوت الأفراد" من أحكامه ومن الحقوق المرتبطة بها. وبذلك تترك سلامة وحقوق نساء وفتيات من الفئات الأكثر هشاشةً رهناً بأخلاق أصحاب العمل. بينما ترفض الدولة، إلى الآن، الاعتراف بالعمل المنزلي كمهنة، وتتمسك بالذهنية السائدة في التعاطي مع الفئة العاملة به وكأنها أدنى شأناً من غيرها.
فعلى الرغم من الجهد الكبير الذي يتطلبه العمل المنزلي والحاجة الكبيرة إليه وأهميته الاقتصادية، لا يزال ينظر إليه بدونية وكأنه ليس عملاً. وتعود هذه النظرة إلى الربط التاريخي بينه وبين دور المرأة والأفكار النمطية التي ما زالت سائدة حتى اليوم. إذ يعتبر العمل المنزلي واجباً على المرأة القيام به دون أجرٍ بحجة أنه "غير منتج".
كذلك، تنجم النظرة الدونية عن السياق التاريخي الذي ارتبط به العمل المنزلي. فقديماً عملت في الخدمة المنزلية النساء اللواتي كن من الطبقات الأدنى في المجتمع، وحرمن من الحقوق والحماية.
وقبل الحرب الأهلية اعتادت العائلات الميسورة على الاستعانة بنساء أو فتيات صغيرات السن، فقيرات، للعمل في منازلهم مقابل المسكن والمأكل والمشرب. وبعد اندلاع الحرب بدأت موجة قدوم العاملات الأجنبيات بأعداد كبيرة، وغطّت الحاجة إلى هذا النوع من العمل في مختلف المناطق.
وحتى مرحلة ما قبل الانهيار الاقتصادي، حاولت الدولة إسكات اللبنانيين عن المطالبة بخدمات من واجبها تأمينها، وأهدتهم نظام الكفالة الذي أتاح استغلال العاملات الأجنبيات. وأوكلت إلى أصحاب المكاتب الخاصة مهمة استقدامهنّ، من دون ضبط هذا القطاع ومكافحة الاستغلال الذي نجم عنه. وهكذا شاركت الدولة بشكل مباشر في استغلال العاملات. وألقي على كاهل هذه الفئة المهمشة مهمة تامين ما عجزت الدولة عن تأمينه.
وللعمل في الخدمة المنزلية أهمية كبيرة في الاقتصاد. إذ تشتدّ حاجة الأسر إلى من يساعدها في الأعمال المنزلية بحكم فشل الدولة في تأمين الرعاية الصحية اللازمة لكبار السن والمرضى، وكذلك عدم مراعاة قوانين العمل لوضع المرأة في مجتمع يرمي على كاهلها أعباء الأعمال المنزلية. بالمقابل تزداد حاجة العاملات إلى فرص عمل لتأمين مردود مالي لهنّ ولأسرهنّ.
من هنا يبرز واجب الدولة بالاعتراف بالعمل المنزلي كعمل، وتأمين التوازن في العلاقة بين العاملات وأصحاب العمل وضمان منفعة متبادلة. وإلّا تحوّلت المهنة إلى علاقة استغلال بين الأقوى والأكثر تهميشاً. فبفعل غياب التنظيم تترك العاملات عرضة لمختلف أنواع الانتهاكات، كالتعنيف اللفظي والجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي والافتراء وغيرها من الارتكابات التي قد تصل حدّ الاتجار بالبشر. ومن جهة أخرى قد يعاني الباحثون والباحثات عن مساعدة منزلية خلال بحثهم في ظل الفوضى في القطاع.
وأولى الخطوات المطلوب اتخاذها بعد إلغاء المادة السابعة من قانون العمل، تتمثل بصياغة قانون ينظم العلاقة بين طرفي العمل، وترسيخ عقلية جديدة في التعاطي مع العمل المنزلي، وعدم اعتباره دون سواه من الأعمال. وكذلك التأكيد على أن العاملات والعاملين في المنازل لا يقلون شأناً عن غيرهم. وهو ما سيحمي العاملات من مختلف الجنسيات من الاستغلال والعنف، ويحدد حقوقهن وواجباتهن وساعات العمل والحد الأدنى للأجر ويشملهن بالتغطية الصحية. عندها سيدرك صاحب العمل واجباته التي عليه الالتزام بها تحت طائلة المحاسبة.
والأهم، أنه لا يمكن تحديث الدولة والعمل على تعافيها من دون إلغاء الممارسات العشوائية والقوانين التي تبيح العنف والاستغلال وتتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان. فقد حان الوقت لأن يدرك المسؤولون أن نظام الكفالة مهين للبنان ولمجتمعه. فهو يشكّل عثرة أمام تطوّر هذا البلد في كافة المجالات، لا سيما وأن عاملات المنازل يشكلن أكبر فئة عمالية نسائية فيه.