قوانين الأحوال الشخصية: من هنا نبدأ المواجهة مع السلطة العميقة
في سياق المواجهة التي نخوضها مع نظام الفساد والمحاصصة الطائفي اللبناني، يلوح مطلب قانون مدني إلزامي للأحوال الشخصية بوصفه إحدى نقاط هذه المواجهة، لا بل يفترض أن يتصدرها، ذاك أن مصدر الفساد لطالما تغذى من ذلك الأصل المذهبي للنظام العميق الذي يمثله استقلال الطوائف بقوانينها للأحوال الشخصية، وهو ما مكنها من مد نفوذها إلى مختلف أوجه الحياة العامة والخاصة في جمهوريتنا المتداعية! ولعل أمثلة كثيرة على هذه المعادلة أجادت علينا فيها وقائع الأيام والأسابيع الفائتة.
نعم من هنا نبدأ. من قانون مدني إلزامي للأحوال الشخصية. وأن تتصدر هذه المهمة عناوين المواجهة مع السلطة الفاسدة، فهذا سيمثل طموحاً تغييرياً جوهرياً لا يقل أهمية عن مطلب الإطاحة بالطبقة السياسية التي تسببت بالكارثة التي نجمت عنها هذه المآسي التي نعيشها. فالطبقة السياسية هي أولاً وأخيراً ابنة النظام وثمرة عمله على مدى عقود الفساد والارتهان. ولهذا السبب تحديداً تخوض بعض قواها وأحزابها مواجهة ضارية لمنع تشريع هذا القانون. ثم إن الإطاحة بهذه الطبقة سيكون، إذا لم يرفق بهذا الإنجاز، تعاملاً مع النتيجة وتركاً للأسباب، وهو ما سيعرضنا لاحتمال ولادة ثانية للنموذج ذاته.
إذا كان من وجود لسلطة عميقة في لبنان، فهي سلطة الطوائف والمذاهب، وهذه تستمد قوتها من قدرتها على صوغ خياراتنا العامة والخاصة عبر قوانين الأحوال الشخصية التي تتمتع كل طائفة عبرها بالقدرة على سوق رعيتها إلى حظيرتها.
أن نستعيد مواطنيتنا، فهذه مهمة يجب أن تترافق مع المهمات التي طرحناها على أنفسنا منذ انطلاق احتجاجات 17 تشرين، وتملي أن نستعيدها من الطوائف التي تمسك برقابنا وتملي علينا خياراتنا، وتعاملنا بوصفنا رعاياها عبر القوانين المذهبية للأحوال الشخصية. والسلطة تعرف أن العصبيات هي سر نفوذها ومركز السلطة العميقة، وهي لا يمكن أن تستمر من دون ناظم يضمن مستقبلها. وهذا الناظم هو سلطتها على أحوالنا الشخصية وخياراتنا الشخصية، ومنها تنطلق نحو خياراتنا العامة.
نحن ننتخب من ساقه هذا القانون لنا بوصفه امتداداً لقيودنا وسجلاتنا المذهبية، ونحن نحارب ونختصم ونتقاتل بناء على الهوية الأولى التي صاغتها لنا قبل ولادتنا تلك القيود، وعلى أساسه يذهب أولادنا إلى مدارسهم، وتختار بناتنا أزواجهن وفقه، وهذا ما لم يعد يشبهنا، مثلما لا يشبهنا هذا النظام الذي تسبب بالكارثة التي نعيشها. فانفجار المرفأ هو امتداد للصدع الأول المتمثل بالقوانين المذهبية للأحوال الشخصية، وكذلك الهندسات المالية التي تم وفقها توزيع الغنائم على ممثلي النظام الطائفي على حساب المواطن المودع. ولم تكن فضيحة الشهادات الجامعية التي أعطيت لغير مستحقيها من العراقيين بعيدة من هذه المعادلة، فرائحة الطوائف فاحت من هذه الفضيحة عبر الجامعات التي وزعت رخصها إرضاء لقادة الطوائف الذين استمدوا قوتهم من ذلك النفوذ الذي منحهم إياه نظام القوانين المذهبية للأحوال الشخصية. التصدي لكل هذا الخراب يبدأ من هنا، والتصويب يجب أن نباشره من المطالبة بحقنا في أن نكون مواطنين في بلد، لا رعايا لطوائفنا.
الاشتباك مع النظام يجب ألا يبقى في حدود المواجهة مع الطبقة السياسية، فهذه الأخيرة هي ثمرة السلطة العميقة للمذاهب، والسلاح الرئيسي لهذه المذاهب هو قوانين الأحوال الشخصية، ويمكن أن نذهب بهذه المعادلة خطوات أبعد، فالحماية التي أمنها النظام الطائفي للمتهمين بانفجار المرفأ من النواب والوزراء والأمنيين، كان أسس لها نفوذ لدور الإفتاء مصدره الأول هناك، أي بما تمنحه لها القوانين، وعلى رأسها قانون الأحوال الشخصية، من سلطة وقدرة على التدخل. وعدم تسليم السلطات اللبنانية الأب منصور لبكي للقضاء الفرنسي بعدما حكمه الأخير بـ15 عاماً في السجن لارتكابه جرائم اغتصاب بحق قاصرات، كان استجابة لسلطة الكنيسة، وهاتان القبيحتان ليستا وحدهما ما يمكن سوقه للإشارة إلى الحاجة الملحة لقانون مدني إلزامي للأحوال الشخصية، وإن كانتا الأقرب زمنياً إلينا.
قوانين الأحوال الشخصية الراهنة التي تنظم حياتنا هي جوهر النظام الطائفي الذي تسبب بالكارثة التي نعيشها، أما الطائفية السياسية ونظام المحاصصة فهما من عوارضه الخارجية، فالنظام يبني قاعدته الاجتماعية عبر مراكمة الممارسة المذهبية التي يؤمنها له انتظام الرعايا بقوانينه وسجلاته وبياناته، وبعدها تبدأ الطوائف بإجراء مقاصاتها عبر قوانين الانتخاب، وما يليها من محاصصة في الحكومة والإدارة والأجهزة الأمنية والمرافق العامة.
هذا ما يفسر تصديه لمطلب قانون مدني للأحوال الشخصية، ذاك أن الأخير يسحب من يده نفوذاً هائلاً ممتداً من قدرته على التأثير بتحقيق انفجار المرفأ، إلى تزويج قاصرة في المحكمة الشرعية.
البعد النسوي والجندري للاحتجاجات التي انطلقت في تشرين 2019، يجب أن يوظف هنا، فقد كشفت مشاهد الساحات عن استيعاب شرائح المحتجين لقضية استعادة مواطنيتهم من طوائفهم ومذاهبهم على نحو مذهل، وترجمة هذا الطلب تكون عبر خوض معركة انتزاع قانون مدني إلزامي للأحوال الشخصية. فالتظاهرة إذا ما اعتبرناها عينة ممثلة للبنانيين، فهي كشفت أنها تجاوزت ما تمليه عليها القوانين المذهبية التي تنظم أحوال المتظاهرات والمتظاهرين، مثلما كشفت ضيقاً بأحزاب السلطة وبفسادها وبسطوها على الودائع في المصارف وعلى مقدرات الدولة. ثم إن الروايات الكبرى عن فساد السلطة وعن موبقاتها يجب أن يُؤسس له بروايات عن سبل تفشيه وأساليب بنائه قواعده المذهبية، والقوانين المذهبية للأحوال الشخصية هي الشريان الرئيس الذي يغذيه.
أن تطرح احتجاجات تشرين على نفسها ضرب العلاقات العصبية والقرابية التي مثلت القاعدة الاجتماعية لنظام انفجار المرفأ، فهذا يفترض أن يعيدنا إلى المهمة الأولى، عبر إضعاف ممثلي هذه العصبيات وشل قدرتهم على التأثير في الأفراد، وعبر إعادة الاعتبار لحقوق المرأة في الاختيار وفي الزواج والطلاق والحضانة والإرث، التي تحرمها منها القوانين المذهبية للأحوال الشخصية. واحتجاجات تشرين كشفت عن الدور الهائل الذي اضطلعت به شابات الساحات، وهو دور لا يوازيه حضورهن في الحياة العامة، والمسؤول الأول عن هذا الاختلال هو خضوعهن لتمييز هائل في الحقوق مرده تمييز أول تعرضن له في المحاكم وفي سجلات الأحوال الشخصية وفي حقوقهن بأن يحددن مصائرهن ويمارسن خياراتهن.
لكن القانون المدني للأحوال الشخصية ليس قضية نسوية وحسب، فهو يشمل مصالح الرجال عبر ضمانه مستقبل أبنائهم وحماية حقوقهم وحقوقهن، والأهم عبر شقه طريقاً لبلد لا تحكمه الطوائف، ولا تذهب به إلى حيث ذهبت ببلدنا مذاهبه وأحزابه الفاسدة.
حازم الأمين