بين العمل الذي لا يُراد تنظيمه والعنف الذي يُراد له أن يكون عملًا
تروي لي أنجي كيف أنها عندما تركت منزل كفيلتها المسيئة وجدت نفسها في الغابة وحيدة وخائفة دون أدنى فكرة عمّا قد تفعل أو إلى أين تذهب. تقول: "لم أفكر بالأمر وقتها؛ قلت لنفسي لا بأس إن مُت، لكن يجب أن أخرج من هذا المنزل مهما حصل."
لهذه اللحظة رمزية كبيرة في حياة الفتاة الكينية البالغة من العمر ثلاثة وعشرون عامًا. كل ما عاشته منذ وصولها إلى لبنان يتكثف في هذه اللحظة. أن تجد نفسها وحيدة دون أي دعم أو أدنى فكرة عمّا قد يحدث لها وتعيش بقلق وخوف دائمين من الصفعة التالية. أن تكاد تنجو من شركٍ محكمٍ تحاك خيوطه حول رقاب عاملات المنازل المهاجرات لحظة يأخذن قرار الهجرة إلى لبنان، لتقع مباشرة في شرك الدعارة المتربص بنفس هؤلاء العاملات ليجهز عليهن ما يلبث أن ينتهي نظام الكفالة من تدميرهن التدريجي.
وجدت أنجي سبيلها إلى الطريق العام عندما سمعت صوت تكسير صخور وتتبعته حتى وصلت إلى مصدره. هناك، وجدت عمالًا، وأعارها أحدهم هاتفه فكلّمت مكتبها في كينيا الذي قال لها أن تذهب إلى الشرطة. تواصل العمال مع الشرطة الذين أتوا إلى مكان وجودها وعندما سألوها عما تريد قالت بأنها تريد الوصول إلى سفارتها. أعطاها أحد العناصر عشرين ألف ليرة لتجد سفارتها، وذهبوا. ما كادت أن تجد المساعدة حتى تُركت لمصيرها من جديد. كل شيء يتآمر ضدها منذ قررت السفر كعاملة منزلية إلى لبنان. لا بل قبل ذلك، منذ ولدت فتاتًا على هذا الكوكب.
أنزلها سائق التكسي في الدورة بمكان بعيد جدًا عن موقع سفاراتها ووجدت نفسها وحيدة مرّة أخرى. هذه كانت لحظة بدأ عملية استغلالها في الدعارة وفقًا لخطة مسبقة الإعداد، وهي حتمًا لم تنخرط في الدعارة في نفس تلك اللحظة. هذه الخطة تعد خصيصًا للنساء، وما نراه يحدث في الأفلام عن خطف النساء من عصابات وسجنهن وسوى ذلك من المشاهد البوليسية هو غالبًا غير صحيح عن الدعارة. فالمستغلون والقوّادون ومشترو الجنس لا يحتاجون لبذل كل هذا العناء، لأن هناك نظام بأسره يحرّك النساء كقطع الشطرنج ليوصلهن إلى هذه اللحظة بالذات.
أنجي هاجرت إلى لبنان لأنها في الأساس لم تكن تملك شيئًا ولأنها في الأساس استنفذت كل وسائل البقاء في بلدها. هذه هي حال معظم عاملات المنازل القادمات إلى لبنان. فتظهر دراسة أحلام للبيع[1] أن النساء المهاجرات للعمل المنزلي هن في غالب الأمر من خلفيات هشة مثل أن يكن المعيلات الوحيدات لأسرهن أو ذوات خلفيات اقتصادية متردية، أو قادمات من مناطق ريفية نائية أو غير متعلمات أو يأتين من دول تواجه حروبًا، كما أنه من الممكن أن يهاجرن هربًا من العنف الأسري.
النساء والفتيات المدفوعات للهجرة يأتين ليقمن بالعمل المنزلي وهذا ليس تفصيلًا أيضًا. إن كان الواقع الاجتماعي كالحرب وقلة فرص العمل واقعًا تتشاركه النساء والرجال، فلم لا يهاجر الرجال كعمال منزلين عوضًا عن النساء؟ بعض الروايات عن ألسنة عاملات المنازل تفيد أن الرجال لا سيما الزوج أو الشقيق يدفعون بهن للهجرة كما يقومون بتزوير عمر الابنة أو الشقيقة القاصرة حتى تتمكن من السفر. معظم الأحيان ما تجنيه العاملة هنا يستولي عليه رجال عائلتها، طبعًا بحكم أن صاحب العمل يقرر أن يرسل أموالها – إن أرسلها- إلى أهلها، وكأنهم هم من يعملون بدلًا عنها. يجد أصحاب العمل هذا الأمر مناسبًا لهم وإلا كيف يمكنهم أن يضيّقوا الخناق عليها لو كان هناك مالًا بحوزتها؟ حتى عندما ترسل الأموال بإرادتها وتطلب من أشقاءها أو زوجها تصميد المبلغ، تعود لتجد أموالها المرسَلة من قد بُذّرت تمامًا. لكن حتى ان لم يكن هناك عامل الإجبار وإن لم تُسلب اموالها لم يقع الخيار على النساء للهجرة ولم العمل المنزلي تحديدًا؟
إذن، غالبًا هؤلاء النساء يعانين الأمرّين قبل أن يبدأ مسار الهجرة، وتجربة الهجرة في أحسن الأحوال تجربة مريرة فكيف أن تكوني فتاة أفريقية تهاجرين إلى لبنان كعاملة منزلية في ظل نظام الكفالة؟ لسنوات عديدة جدًا، ربما لفترة سبقت الانهيار الاقتصادي لم يجد اللبنانيون مانعًا من استقدام هؤلاء الفتيات في ظل نظام استعبادي ليقمن بوظيفة متواصلة وشبه مجانية أو فعلًا مجانية لوقتٍ طويل.
العمل المنزلي في لبنان تم استثنائه من أحكام قانون العمل. إذ أن هذا الدور الملصق بالنساء ينبغي عليهن تقديمه مجانًا وأبدًا ودون أن يبدين أي تأففًا أو تعبًا. وبالتالي إن الاستعانة بعمالة من خارج المنزل تأتي من النساء الأقل حظًا لأنه طبعًا لا يجوز للرجال أن ينزلوا درجة في السلم الاجتماعي الأبوي ويقوموا بالأعمال المنزلية. الشروط نفسها التي تُطبق على الزوجات والأمهات من العمل المتواصل والأبدي تُطبق على نساء أخريات- كان هناك ضرورة بأن نأتي بهن من أفريقيا وآسيا الشرقية كي نستعبدهن بما يتناسب مع أحكامنا العنصرية والذكورية.
بعد أن كانت أنجي متروكة وسط الطريق لوحدها، أخذتها إحدى النساء المهاجرات إلى منزل سيدة نيجيرية أكبر سنًا. ليس هناك ظرفًا مؤاتيًا أكثر من ذلك ليصطادها نظام الدعارة؛ أن تكون الفتاة المهاجرة الهاربة من العنف لتوها، مشردة دون أي مكان تبيت فيه ليلتها ودون أن تتملك فلسًا في جيبها. هكذا يتم تحريك النساء على لوح الشطرنج حتى يقعن تمًامًا. لا تبدو الدعارة خيارًا واردًا للمرأة التي تتقاضى أجر جيد، تمتلك بيتًا تقيم فيه، هذا الخيار لا يُطرح ولا يظهر قبل نقطة الصفر. وهذا ما تؤكده دراسة أكزيت[2] فحاجة المأوى والحاجة إلى عمل مستقر هما حاجتين مشتركتين عند 100% من النساء المشاركات بالدراسة حتى يتمكن من الخروج من الدعارة.
أنجي لم تكن تمتلك هاتين الحاجتين قبل دخولها مجال الدعارة، فإذا فكرنا بالأمر مليًا، بيت صاحب العمل ليس مأوىً لها بل سجنًا، وما كانت تقوم به ليس عملًا بل استعبادًا ممارسًا بحقها. للحقيقةً، لا نجاة للنساء لا سيما العاملات المهاجرات في ظل المنظومة الأبوية، لا تلبث أن تخرج الواحدة من نظام استغلالي حتى تجد نفسها في نظام استغلالي آخر.
تروي أنجي عن عملية استغلالها التالي: "قالت لي المرأة أنها ستجد لي عملًا على أن أدفع لها جزء من أجري مقابل سكني معها، فوافقت. لكنها صارت تضايقني وترفع أجر الغرفة كل شهر. إن دفعت600,000 ل.ل. هذا الشهر فسأدفع مليون ليرة في الشهر اللاحق. كنت أطلب منها أن تساعدني لأعود إلى بلادي لكنها كانت ترفض مساعدتي وعندما حاولت الحصول على مساعدة الجمعيات كانت تقول ألّا أكلمهم لأنها ستعطيني غرفة أصغر بأجر أقل. ثم صارت تقول لي بأنها تعرف رجلًا يمكنه مساعدتي وأنه عليّ أن أقابل رجلًا يساعدني فكنت ارفض مقابلته في البداية. بعد فترة توقفت عند تقاضي أي أجر ولم يكن معي أي مال لشراء الطعام. فصار يأتي هذا الرجل ليمارس الجنس معي لكنه لم يعطني أي مال أو طعام، ولا أدري ما الاتفاق الذي كان بينه وبينها، لكنني عندما قلت لها انني لا أريده أن يأتي مجددًا، غضبت وصرّخت وهددتني بأن ترميني في الشارع. قبل أن أهرب منها صارت تفتش في هاتفي، كنت أتواصل مع الجمعيات سرًا وأمحي المحادثات قبل أن أعود إلى المنزل."
بهذه السهولة يتم استغلال النساء، فنظام الدعارة يترصد النساء وينقّض عليهن في اللحظة المناسبة، هو نظام ينمو ويضمن استمراره من مآسي النساء. فبين التشرد والدعارة، الدعارة! بين الجوع والدعارة، الدعارة!
هذا الواقع ليس غريبًا عن العاملات العالقات خارج نظام الكفالة وعلى وشك أن يبتلعهن نظام الدعارة. فهناك مرات كثيرة وردني عبر الخط الساخن لعاملات المنازل، رسائل واتصالات من عاملات مهددات بالإخلاء أو ممن لا يمتلكن ثمن الطعام، يقلن في الجملة الواحدة "أرجوكِ، لا أريد أن أدخل مجال الدعارة، لا أريد أن أموت هنا". هكذا يتساوى الأمرين لدى هؤلاء النساء. وربما لم تظهر الحقيقة بشكل أوضح من ذلك؛ إلى هذا الحد يمكن التخلي عن النساء، إلى هذا الحد يكرهنا النظام. هذه هي الخطة المعدّة للنساء: إما الموت، أو تحويلنا لأشياء تُباع وتُشترى.
لو أن العمل المنزلي كان منظمًا ومحميًا ولو لم يكن هناك وجود لنظام الكفالة الذي يتاجر بالنساء، ولو عملت أنجي وفق شروط طبيعية، ما كانت لتدخل الدعارة. فعلى نقيض أنجي، وجدت هند مخرجًا من الدعارة في العمل المنزلي.
هند بقيت في الدعارة لمدة سبعة أو ثماني سنوات. قصة دخولها لا تختلف كثيرًا عما واجهته أنجي. هند اليتيمة المتزوجة لاحقًا زواجًا مختلطًا لم تكن حياتها سهلة. عندما ضاق الحال ووجد زوجها نفسه بلا عمل، قالت لها امرأة تعرفها بأنه يمكنها أن تنزل معها إلى الطريق وهكذا تتدبر أمرها. عندما علم زوجها لم يقل شيئا. لمَ لمْ يدخل هو مجال الدعارة طالما أنه هو من خسر مصدر دخله؟ لكن المجتمع غير مستعد للتضحية بالرجال، التسليع والمتاجرة بالبشر هي من نصيب النساء. عندما يصل الرجال إلى نقطة الصفر، عندما يدق التشرد والجوع بابهم لا ترد الدعارة في حساباتهم ولا يُطرح الموضوع عليهم بنفس السهولة التي طٌرح فيها على هند ولا يساقون إليها كما سيقت أنجي.
هند خرجت من الدعارة بعد أن تم توقيفها رغم أن توقيفها غير مرتبط بالدعارة لكن التوقيف هو من الأخطار التي تواجهها النساء في الدعارة. الدولة الراعية لأنظمة الإتجار كنظام الكفالة ونظام فيزا الفنانات، المتواطئة بالدرجة الأولى باستغلال النساء لا تكتفي بأن تستغلهن لكنها تستفحل بمعاقبة الضحايا وتساويهن بمستغليهن وتغض النظر بالكامل عن المستغل الأكبر: مشتري الجنس.
كان خروج هند من الدعارة بإيجادها عملًا في المنازل. لديها الآن عملًا مستقرًا تتمكن عبره من تأمين حاجاتها وطفلها الصغير. رغم أنها كانت تجني أكثر في الدعارة إلا أن هند تجد أمانًا في عملها بالمنازل. "في الدعارة تعيشين بخوف دائم من المضايقات في الطريق، من التوقيف، من السرقة، لا تعرفين اين ينتهي الأمر بك عندما تدخلين سيارة ما، وعليك الخضوع لما يمليه مشتري الجنس."
هند على عكس أنجي كانت محظوظة بالمنازل التي عملت فيها. هند كونها لبنانية لا تخضع لنظام الكفالة ويمكنها بسهولة أن تترك عملها إن لم يناسبها الأمر. وهي لم تواجه أي سوء ليس لأن هناك قانون يحمي عاملات المنازل بل لأنها بالصدفة وجدت أصحاب عمل غير عنيفين.
الواقع يبقى نفسه على الرغم من ذلك، العمل المنزلي يبقى غير منظمًا لأن تنظيمه يحد من استغلال النساء في حين أن الدعوة لتنظيم الدعارة هي مخرج لاستمرار الاستغلال وتسليع النساء.
في هذين الإطارين يبقى وجود النساء مختصرًا بدورين؛ أن يكن آلات تؤدي عملًا دون أجر أو مقابل أجر زهيد، أو أن يكن أدوات جنس يستخدمها الرجال. الهدف هو تحجيم النساء واختصار وجودهن بهذه الأدوار كي لا يرتفعن إلى مرتبة الإنسان في ظل النظام الأبوي، ففي هذا النظام الرجل هو القاعدة وهو الأساس والنساء أدوات لتخدم الرجل.
تعبًر راتشل موران، الناجية الإيرلندية من الدعارة عن هذا الواقع في كتابها "مدفوع ثمنها" عندما تقول " ]الدعارة[ تخلق وهمًا عند الرجال بأن النساء ليسوا إنسانًا مثل الرجل، بل ببساطة أوعية متحركة لها وظيفة أساسية، إن دُفع لهن أو لم يدفع، وهي أن يتم استخدامهن كأوعية تفريغ جنسي للرجل." وهذا القول هو الأكثر تعبيرًا عن واقع الدعارة، فالدعارة تحول النساء لأدوات جنس وسلع وتنزع عنهن إنسانيتهن، ولهذا السبب لا يمكن أن يُنظم هذا المجال. لكن الدعوة لتنظيم هذا العنف مهما صًبغت بصبغات نسوية وتمكينية هي تركيبة لتٌبقي على استغلال النساء. هي وصفة سحرية لتملص القوادين والمتاجرين من أي مسؤولية عن استغلالهم للنساء ولتقع المسؤولية على المرأة المٌستغلة لأنها "تريد" ذلك بعيدًا عن أي تحليل لواقع القمع والعنف والاستغلال الذي يرافق حياة النساء. الأمثلة كثيرة التي تبرهن عن فشل هذه النماذج بتأمين أي حماية للنساء هي فقط تمنح غطاء يحمي المستغلين ومشتري الجنس. وحتى عند تنظيم هذا المجال تبقى الحقيقة أن الرجال لا يدخلون هذا المجال ما خلا بعض الاستثناءات لأنه ليس عملًا، هو نظام عنف يسلع النساء ويشيئهن.
في المقابل، عدم تنظيم العمل المنزلي وخضوع العاملات المهاجرات لنظام الكفالة هو ما يسمح بتسليعهن وتشيئهن، حيث يتم انتقائهن على الصورة وحسب لون البشرة وتُستخدم عبارات مثل "دافع حقها" "وجبناها ب 1000 $". تنظيم العمل المنزلي بطبيعة الحال يلغي نظام الكفالة والممارسات الناتجة عنه. هو بالدرجة الأولى يعترف بأن المجهود الذي تضعه النساء أكن من داخل العائلة أو خارجها، ليس مجانيًا أو بلا قيمة ويساهم في ردم الهوة بين الجنسين الناتجة عن تقسيم الأدوار. في حين أن مجرد طرح الدعارة كعملًا محتملًا للنساء يعمق هذه الهوة ويعجل الدور الوحيد للنساء هو أن يكن أدوات تفريغ جنسي للرجال كما تقول موران.