أنا أيضاً ... معركتنا نحو عدالة إجتماعية تُشبهنا
منذ نحو أسبوعين أطلقت "كفى" حملة "أنا_أيضاً" في لبنان، والتي كانت سبق وانطلقت في عددٍ كبير من دول العالم، وهدفت إلى تشجيع الفتيات على مشاركة قصصهن مع التحرش. لاقت الحملة تفاعلاً واسعاً جداً، وروت عشرات الفتيات تجاربهن مع التحرش للمرة الأولى. استطاعت الحملة الرامية إلى تشكيل رأي عام فاعل للضغط في سبيل إقرار قانون تجريم التحرش الذي تقدم به وزير الدولة لشؤون المرأة جان أوغاسبيان، أن تكشف قلّة الإدراك حول كيفية التعاطي مع أفعال التحرش، وسوء الفهم للفارق بين فعل التحرش وفعل الاعتداء الجنسي.
في ما يلي قراءة في قصص التحرش الكثيرة التي وردتنا، وإضاءة على واقع النظرة المجتمعية حول مسألة التحرش، بقلم ناي الراعي.
منّا من يسكنها رعب يمتد من الحلق إلى المعدة، عبر شرايين القلب. منّا من تتآكلها مساحات ارتياب متّسعة في داخلها. منّا من تشعر بغضبٍ يُحرق حلقها ويُقعد لسانها، وينتهي بشل حركتها. منّا من تكره ذاتها وهشاشتها، وتلومها. ذلك اللوم الذي تدينه عند الآخرين.
تختلف ردات فعلنا على التحرش الجنسي - التعديات اليومية على أجسادنا، وأمننا، ومساحاتنا الشخصية. إلا أن المشترك الخطير الذي ينتج عن الذي يصيبنا يومياً في الشوارع، في وسائل النقل العام، وأحياناً داخل مكاتبنا وبيوتنا، هو الشعور بالذنب..
حين يسألوننا لم نعمل على موضوع التحرش، ويخفت صوت السائل حين يستفهم إذا ما كان دافع هذا النشاط هو "حادثة ما" تعرضت لها إحدانا، نحاول أن نشرح شمولية وانتشار هذه "الآفة"، ولامحدوديتها في الزمان والمكان. نقول أننا تعرضنا ونتعرض كل يوم. نقول أننا وأخواتنا وصديقاتنا والغريبات اللواتي لا نعرفهن، تعرضنا ونتعرض كل يوم. في المدرسة، والجامعة، والشارع، ومكان العمل. نقول أن "الحادثة" ليست استثناء. نقول أن الحادثة هي سلسلة متواصلة ومتصلة من التعديات اليومية المسكوت عنها، لأن المتحرش ليس مريضاً، ولا "غريباً عن مجتمعنا". هو المار على الرصيف الذي نصادفه يومياً، الشرطي، سائق سيارة الأجرة اللطيف المُبتسم، الجارالذي بدا ودوداً، ابن الخالة أو العم الذي يحرص أن يمضي مع قريبته أوقاتاً مسلية. هو الأستاذ، أو المدير، أو الزميل. هو أي رجل يملك سلطة في مساحة ما، يظهرّها ويستغلها ويمارسها على من في حدود سلطته.
نقول أن ما "نتعرض له" يبدو وكأنه حياتنا اليومية. ترجمة حيّة للثقافة الذكورية التي تسمح به، وتشجع على تشييء النساء، ولا تدين العنف ضدهن، ولا تُحاسب على التعديات التي تبدو "صغيرة" على أجسادهن ومساحاتهن، وحريتهن بالتنقل في مكان عام دون خوف. دون تلفّت إلى الوراء كل نصف دقيقة. نقول أن المتحرش ليس مريضاً. إنه صاحب سلطة يعتبر فرض نفسه على النساء حق مكتسب له، أو على الأقل تصرف لا يُعاقب عليه، بل تشجعه بيئة متسامحة حاضنة، وغالباً ما تمجده بإعتباره تعبير عن القوة والفحولة.
أما نحن، المتلقيات لتعبير الفحولة هذا، الضحايا، الناجيات، المُتحرش بهن – فتعلمنا هذه البيئة الحاضنة عينها أنه علينا بالصمت، ولوم الذات، والإحساس بالذنب، والشعور بأن إنعدام الأمان المستمر هذا مُتلازم مع كوننا نساء، وبأن لا مفر منه، وبأن الكلام عنه عيب، وفضحه فضحٌ لـعيبٍ فينا، وبأننا لا بد استحقيناه بطريقة ما.
الخروج بمفردنا، ساعة خروج متأخرة، تنورة قصيرة، شخصية مرحة، تناول زائد للكحول. لا بد أن تكون العلة فينا. وليس بالرجل الذي تحرش بنا. ولا بالثقافة الذكورية التي تأويه وتحويه وتشجعه. ولا مع القيم التي تسمح للمتحرش ألا يدرك أن ما يقوم به تحرشاً، مؤذياً، أنانياً، مخيفاً، غير مرغوب، أو أن يعلم وألا يثنيه عِلمه. وعليه لا بد أن يكون الحل بألّا نعود إلى "تلك المنطقة"، وبأن نُحدث تغييرات قصرية على نمط حيواتنا. أو بالإستعانة برجل وهمي لتخويف مشروع متحرش، لأن المرأة لوحدها لا تكفي لمنعه من التحرش بها لا بعد منتصف الليل ولا في وضح النهار، وبأنه عليها أن تُحسب على رجل ليرتدع آخر.
إن الدعوة لمشاركة قصصنا اليومية مع التحرش الجنسي تحت وسم #أنا_أيضاً، يهدف لتشريع الأبواب على أسرار دُفنت في قلوب صاحباتها حتى تآكلتها. أسرار لم يكن يوماً على هذه النساء تحمّل وزرها، لكنهن حملنها غصباً، ظلماً، زوراً. أسرار يفك إخراجها طوق العار عن النساء ليطبقه على المرتكبين.
لا تأتي هذه المشاركات إلا لتؤكد على فعل المشاركة كفعل مقاومة، وعلى أن ما كان مسكوت عنه خطأ وجرم وانتهاك. لن تدعو هذه المشاركات النساء إلا للقضاء على صوت الذنب الذي يأكل ضمائرنا حول ساعة الخروج، والثياب التي نرتدي، والمشروب الذي نحتسي، وحول وجودنا بذاته.
لا تأتي هذه المشاركات إلا لتجريم التحرش الجنسي في العقول أولاً. وهذا صلب مكافحة إستغلال السلطة ومحاربة الإستثمار بعلاقاتها غير السوية لإقصاء الأكثر هشاشة. وثانياً للضغط بإتجاه مناقشة وإقرار مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الدولة لشؤون المرأة الرامي إلى معاقبة التحرش الجنسي، والذي أقرّه مجلس الوزراء في آذار 2017.
هذه معركتنا نحو عدالة إجتماعية تشبهنا، لا إنتقائية فيها. لا يُقصى فيها الخارج عن السائد، ولا يُهمّش فيها من لا يملك إمتيازات كافية للنجاة بقليل من الكرامة. هذه معركة من لم يتخلَ بعد عن إحتمال الحياة الكريمة في بلد يعجز عن تأمين أبسط مقومات الحياة، بل ويتعمّد أحياناً على حرماننا منها. وقصصنا سلاحنا في هذه المعركة، نتكلم من خلالها عن الظلم الذي نشهده كل يوم عوض التحديق به وهو يقضم القطعة تلو الأخرى من دواخلنا. قصصنا التي نتكلم من خلالها عن مقاوماتنا اليومية المتراكمة.
والزمن اليوم لم يعد زمن السكوت عن التعدّيات. ولا زمن الإملاءات المجتمعية على أجساد النساء ولا زمن التكّلم بإسمهن. أنتِ، ضحية التحرش، وأنتِ وحدك التي تملكين الحق بتصنيف ما تتعرضين له وتقييم ردة فعلك عليه. يكفي أن تُدركي أن العلّة ليست بكِ، رغم حدّة الضغط عليك لتعتقدي ذلك.يكفي أننا بتنا ندرك قوة القصص التي نحملها في دواخلنا. وأنها ما عادت تخيفنا، وقد حولناها من أسرار كانت ترهبنا إلى سلاح يحررنا ويصوّب على أصل العلّة.