ثمّة فرق بين مداهمة بيت دعارة ومداهمة أجساد النساء

ثمّة فرق بين مداهمة بيت دعارة ومداهمة أجساد النساء

تعيد حلقة "بالجرم المشهود" التي بُثّت في 8 كانون الثاني 2013 على قناة الأم تي في طرح التساؤلات حول كيفية مقاربة ظاهرة البغاء على المستويين القانوني والاجتماعي-الثقافي في لبنان. فبالرغم من مرور قرون ودهور على نشأة الدعارة واستمرارها وازدهار مختلف قطاعاتها، إلا أنّه بالكاد تغيّرت النظرة العامة إليها، حيث لا تزال تُعتبر وكر فساد أبطاله نساء يعرضن أنفسهنّ تلبيةً لملذّات زبائن مقابل مردود ماديّ معيّن، ويساويهنّ فسادًا قوّاد ومسهّلون يجنون أموالاً طائلة من فوق أجساد النساء. وهي مقاربة تتجلّى في المادّة 523 من قانون العقوبات اللبناني التي لا تكتفي بجمع الطرفين في المادّة نفسها وحسب، بل تساوي بينهما في الجرم والعقوبة. في حلقة "بالجرم المشهود"، شاهدنا انعكاسًا فاقعًا لهذه المقاربة، من خلال مداهمة عناصر مكتب الآداب في قوى الأمن الداخلي ومعه فريق عمل الأم تي في، بيت دعارة في المعاملتين، وإلقائهم القبض على مديري الشبكة هناك، والنساء معهم.

إنّ ما قام به فريق عمل "بالجرم المشهود" خلال العمل على التقرير المذكور في غاية من الخطورة، إذ داهم النساء ورأى وصوّر أجسامهنّ - وهنّ عاريات أو نصف عاريات- وأرعبهنّ بعدسة الكاميرا التي وثّق بها هذه اللحظة إلى الأبد، من دون أخذ موافقتهنّ على ذلك. نتفهّم أنّ عناصر قوى الأمن الداخلي تطبّق القانون وتداهم الأماكن المشبوهة و"المافيات"... لكن من هو هذا الفريق ليعتقد أنّ من حقّه رؤية أجساد عارية لم يسأل أصحابها -وإن خبّأ وجوهها على الشاشة- إذا ما كان باستطاعته رؤيتها أولاً وتصويرها ثانيًا؟ ونحن نعرف أنّه يحتفظ بها اليوم، كما هي، في أرشيفه الخاص. 
ليست هذه المرّة الأولى التي تتناول فيها الأم تي في موضوع الدعارة بهذه الطريقة. فقد سبق وصوّر فريق عمل برنامج "تحقيق" منذ عامين تقريبًا، عددًا من النساء على الطرقات عبر كاميرا خفيّة، مظهرًا وجوههنّ من دون أخذ موافقتهنّ على شيء. أكثر من ذلك، استخدم الفريق آنذاك زبونًا ليصوّر عبره جلسة جنسيّة مع امرأة داخل إحدى الشقق. إنّ فريق العمل بتصرّفه هذا، إنما انتهك خصوصيّة هؤلاء النساء وأجسادهنّ وحقوقهنّ، وذلك نتيحة الاعتقاد السائد بأنّ هذه الخصوصية مفقودة أصلاً، فلمَ احترامها؟ وهو اعتقاد ناجم عن ثقافة ذكوريّة تجرّد النساء من حقوقهنّ الأكثر بديهيّة وإنسانيّتهنّ. 
إلى ذلك، قد يغفل الكثير من المشاهدين ما التقطته الكاميرا في مشهد يظهر فيه زبون عارٍ كان في السرير مع إحدى النساء قام حين فاجأه المصوّر ليرتدي ملابسه، وهو مدرك أنّه لن يُعاقب وأنّه سيهمّ بالرحيل بعد إجراء تحقيق قصير معه، حرًّا طليقًا، فيما تُكبًّل التي دفع لها المال لقاء لذّته، وجميع النساء الأخريات، ويُصطحبن إلى المخفر باعتبار أنهنّ اقترفن جرمًا يعاقب عليه القانون. إنّ ما فعلته قوى الأمن الداخلي وما عرضته شاشة الأم تي في، ليس سوى مرآة تعكس المقاربة السائدة للدعارة في بلادنا: وكر فساد أبطاله نساء يجنين الأموال لقاء تلبية لذّات جنسية، يساويهنّ فسادًا قوّاد ومسهّلون.

لكن في الواقع، الدعارة ليست فيلمًا سينمائيًا ساحرًا تختار النساء تأدية الأدوار القويّة فيه ليجنين أرباحًا وحيوات مستقلّة سعيدة، ضمن علاقة عمل سويّة وصحيّة مع المخرج/ة، يستفيد منها الطرفان. في الواقع، إنّ الدعارة صناعة ضخمة تنبع وتستفيد من غياب المساواة والعدالة، لتزدهر فوق أجساد النساء. وكما تشير العديد من الدراسات، معظم النساء والفتيات في الدعارة لم يستيقظن ذات صباح وقرّرن فجأة، وبملء إرادتهنّ، رمي أنفسهنّ في هذا العالم القاتم، إنّما هناك من استقدمهنّ وشجّعهنّ على دخوله نتيجة حاجة أو ضعف أو بيئة مفكّكة وعنيفة نشأن فيها أو ظروف اجتماعية واقتصادية هشّة... وحتمًا، نتيجة ثقافة ذكوريّة أتاحت منذ البداية هذا المجال أمام النساء لتكرّس بذلك تسليعهنّ استجابةً لملذّات الزبائن. هي عمليّة استقطاب إذًا تؤدّي بالنساء إلى عالم الدعارة، حيث تسود كافّة أشكال الاستغلال الجنسيّ، كعرض النساء سلعًا صالحة للاستهلاك على مقاس لذّات الزبائن وأهوائهم... وجميعنا يعي أنّ الخروج من هكذا عالم ليس بسهولة الدخول إليه. فأيّ فيلم هذا الذي لا ينتهي؟

بعد هذه اللمحة السريعة، يتبيّن لنا أنّ واقع الدعارة ليس ببعيد عن ظاهرة الاتجار بالبشر مثلما عرّفها القانون الدولي. وقد شهد قانون العقوبات اللبناني تعديلاً في العام 2011 ليشمل معاقبة جريمة الاتجار بالأشخاص في القانون رقم 164. صحيح أنّ هذا القانون يجرّم الاتجار بالبشر، غير أنّه لم يُزِل عن ضحية الاتجار عبء إثبات أنّها ضحيّة (المادّة 586-8). وفي حالتنا هذه، أي الاتجار بهدف استغلال دعارة الغير أو الاستغلال الجنسي، سيترتّب على المرأة إثبات أنّها ضحيّة اتجار، وإلا تُعاقب وفقًا للمادة 523. وكأنّه لا يكفي المرأة في الدعارة إدانة المجتمع والقانون لها، فيأتي القانون 164 الذي يُفترض أن يومّن لها الحماية ليصعّب المهمّة عليها. 

من هذا المنطلق، تدعو منظّمة "كفى" إلى ضرورة مراجعة هذه الثغر القانونية وتعديل ما يجب تعديله لتتلاءم النصوص، والمواد الإعلامية معها، مع مقاربات متطوّرة مبنية على مبادىء الحقوق الإنسانية للمرأة.