حرب ماري كولفين الخاصة بين قذيفة وأخرى

ماري كولفين

حرب ماري كولفين الخاصة بين قذيفة وأخرى

كشفت عن مجازر صدّام حسين في العراق. واجهت القذافي بعد الثورة، وقدّمت الرواية المضادّة في بابا عمرو. ماري كولفين، الصحافية الأميركية التي خسرت عينها اليسرى في سريلانكا وخسرت حياتها في سوريا، تخوض حربها الخاصّة على الشاشة الكبيرة.

اشتهرت الصحافية الأميركية الراحلة ماري كولفين بالضمادة السوداء التي تغطي عينها اليسرى كما عند القراصنة. لكن قبل ذلك وبعده، عُرفت ماري كولفين بإنجازاتها المهنية كمراسلة حربية تنقّلت بين مناطق النزاع الأكثر خطراً في العالم، قبل أن تقتَل بقذيفة للجيش النظامي السوري في حمص خلال العام 2012.

لم يغب ذكر كولفين منذ وفاتها، لكنّ الضوء سُلِّط عليها بشكل أكبر في الأشهر الأخيرة، مع إطلاق أكثر من عملٍ عن حياتها: كتاب سيرة بعنوان "على حافة الموت" وفيلم وثائقي بعنوان "في اللحظة الأخيرة"، إضافة إلى "حرب خاصة" وهو فيلم روائي هوليوودي يتتبع مسيرتها في العقد الأخير من عمرها.

لا تعرف الخوف

تكفي نظرة سريعة إلى أماكن النزاع التي تواجدت فيها ماري كولفين لتدرك مقدار شجاعتها، من الشيشان وكوسوفو مروراً بسيراليون وزيمبابوي وسيريلانكا، وصولاً إلى العراق وليبيا وسوريا. أكسبها ذلك احتراماً وسحراً تزايدا مع الوقت.

المرأة التي قالت يوماً أنّ "الشجاعة هي ألّا تخاف من أن تخاف"، أثبتت ذلك بشكلٍ عملي في تيمور الشرقية خلال العام 1999. آنذاك، وبعد هرب كلّ الصحافيين والدبلوماسيين من مجمّع محاصر للاجئين إثر تهديدات بالهجوم عليه، أصرّت كولفين على البقاء مع السكّان المحليّين، ممّا أدى في نهاية الأمر إلى إلغاء القرار بتدميره، لتنقذ بذلك حياة 1500 مدني، من الرجال والأطفال والنساء، من موت محتّم.

في الحقيقة، ظهرت شجاعة ماري كولفين منذ انتقالها للعمل كمراسلة حربية في صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية في العام 1985، مقتحمةً بذلك وظيفةً ظلّت لوقتٍ طويل حكراً على الرجال، لتكون بذلك واحدةً من أولى النساء اللواتي انخرطن في هذا العمل.

آمنت كولفين، التي انتمت إلى الموجة النسوية الثانية في أميركا، كما زميلاتها، بضرورة تحقيق المساواة بين الإناث والذكور في هذه المهنة. لكن تحقيق هذه المساواة على أرض الواقع المختلف جذرياً عن المثاليات، لم يكن بالأمر السهل. تشرح الصحافية جانين دي جيوفاني في مقالٍ لها عن كولفين التمييز الذي تعرضن له كصحافياتٍ يعملن في تغطية الحروب. يبدأ ذلك من الاعتياد على القبول بأجورٍ أقل، وصولاً إلى ازدواجية المعايير في ما يتعلّق بحياتهن الخاصة. ففي حين يتّخذ بعض الصحافيين الرجال المتزوجين عشيقاتٍ لهم، دون أن ينظر إليهم باستياء، كان من غير المقبول أن تحظى مراسلة حربية بزوجٍ أو بعشيق، إذ سرعان ما ينظر إلى من تفعل ذلك كفاسقة، حسب تعبير دي جيوفاني. لكن المشكلة الأكبر كانت دائماً احتمال التعرّض لتحرّش جنسي، الأمر الذي لم يقتصر على المقاتلين، بل امتد إلى زملاء المهنة من الرجال المتواجدين معهن في مناطق الحرب.

بين حربٍ وأخرى تعود كولفين إلى الولايات المتّحدة، فتظهر عليها التأثيرات النفسية لعملها من إدمان الكحول إلى ضحايا الحرب الذين يظهرون في نومها

شكّل ذلك عبئاً إضافياً على ماري كولفين، إذ فرض عليها التواجد والقتال على أكثر من جبهة في الوقت نفسه. في العام 2001، وخلال تغطيتها للمعارك بين الجيش النظامي ومتمرّدي نمور التاميل في سريلانكا، تعرّضت كولفين إلى إصابةٍ خطيرة خسرت إثرها عينها اليسرى، ممّا أضاف مزيداً من التعقيدات على حياتها من جهة، وجعلها من جهة أخرى أكثر تصميماً على ممارسة عملها. دفعت مفصلية هذه اللحظة المخرج الأميركي ماثيو هاينمن لاختيارها كنقطة انطلاق لأحداث فيلمه الروائي الأوّل "حربٌ خاصة" بعد سنواتٍ من عمله في مجال الأفلام الوثائقية.

عين واحدةٌ تكفي

تبرز خسارة ماري كولفين لعينها كنقطة تحوّلٍ في حياتها كما يرويهاين الفيلم. فعلى إثرها تزداد كولفن  اندفاعاً لزيارة مناطق الحرب في الشرق الأوسط، لكن ذلك يترافق مع ظهور عوارض اضطراب ما بعد الصدمة عليها، دافعةً إياها إلى حافة الانهيار العصبي.

يسيطر هذان العنصران على بقية أحداث الفيلم. من سيرلانكا، تذهب كولفين إلى العراق مع الاجتياح الأميركي، وتكشف عن مقبرةٍ جماعية، ثم تغطي اعتداءات القاعدة على المدنيين في أفغانستان. ومع انطلاق الربيع العربي تنتقل إلى ليبيا، وتوثّق اغتصاب جنود القذافي للنساء في المناطق المتمرّدة، وتحظى بمقابلة القذافي الأولى منذ اندلاع الحرب. وعلى الرغم من تهديد القذافي الضمني لها، تظلّ كولفين في ليبيا حتّى مقتل القذافي، حيث توثّق برفقة المصور بول كونروي صور جثّته في المستشفى.

بين حربٍ وأخرى تعود كولفين إلى الولايات المتّحدة للحصول على فتراتٍ من الراحة، لكنّها تحظى بدلاً من ذلك بأوقاتٍ مرعبة تقضيها بشرب الكحول ورؤية ضحايا الحروب في مناماتها.

فيرسم الفيلم صورةً تراجيديةً عن ماري كولفين في صراعاتها الداخلية، هل هي الإنسانية والإيمان بضرورة ما تفعله؟ أم أنّه الاضطراب النفسي والادمانُ على الخطر؟ لكنه يبرز من جهة أخرى شجاعتها، إن كان باصرارها على الذهاب إلى مناطق الحرب وكشفها للحقائق، وإن كان في نقاشاتها مع المراسلين، وكذلك مع رئيس تحرير "صنداي تايمز" حين تقول له إنّ الصحافي الحقيقي هو الموجود في أرض الحدث، لا خلف مكتبه.

هكذا تقدّم لنا هوليوود في فيلم "حرب خاصة" بطلاً أميركياً آخر في الشرق الأوسط، لكنّه لا يتأبّط بندقية ام-16 ليكافح الإرهاب ويقتل الأشرار هذه المرّة، بل يحمل مسجّلةً ودفتراً وماكبوك ليكشف للعالم الوقائع التي تجري على هذه الأرض المشتعلة.

فمع انطلاق المظاهرات في سوريا ضد نظام بشار الأسد، تشدّ كولفين الرحال إلى سوريا، على الرغم من منع دخول الصحافيين الأجانب إلى البلاد. بعد أن تتسلّل من لبنان تصل كولفين إلى حمص، وتحديداً إلى منطقة بابا عمر المحاصرة من قوّات الجيش النظامي. مرّة أخرى تنجح في فضح الرواية الرسمية، وتثبت حصار النظام لأكثر من 28000 مدني، وتعريضهم للقتل دون تمييز،، ليكون ذلك أوّل دليل موثّق على مجازر النظام.

بعد ساعاتٍ قليلةٍ على ظهورها على قناة "سي.إن.إن" وسردها لما شاهدته في مشفى ميداني، يتعرّض المبنى الذي تحتمي كولفين فيه للقصف وينتهي الفيلم بمقتلها برفقة المصوّر الفرنسي ريمي أوشليك.

في العام 2016، ستتقدّم كاثلين كوفلين، شقيقة ماري، بدعوى أمام القضاء الأميركي تتهّم فيها الحكومة السورية بقتل شقيقتها عن سابق إصرار وتصميم. ولاحقاً في نيسان من العام 2018 قامت عائلة كولفين بتقديم وثائق وشهادات من عسكريين منشقين عن النظام تثبت مسؤوليته عن الجريمة إلى هيئة المحكمة.

كولفين النموذج

لا يظهر الفيلم أيّ أمرٍ يتعلّق بالعوائق التي واجهت ماري كولفين لمجرد كونها امرأة في مهنة يسيطر عليها الذكور، ويظلّ بدلاً من ذلك في الإطار العام للمصاعب التي يواجهها الصحافي في مناطق النزاع، بغضّ النظر عن هويته الجنسيّة. وهو أمر يحسب عليه كما ترى دي جيوفاني التي تشير إلى أنّ عملهنّ كمراسلات حربيّات رافقه دوماً التحرّش الجنسي.

بكلّ الأحوال، لم يتحقّق الهدف من قتل ماري كولفين. بدلاً من أن يؤدّي ذلك إلى غيابها، حوّلها إلى نموذج ومثالٍ يحتذى للصحافية الحربيّة القويّة والناجحة، التي تمكّنت من فرض نفسها والنجاح في مجال تسود فيه قيم العنف والذكورية.
 

*بعد كتابة هذا المقال، وجد القضاء الأميركي أن الحكومة السورية مسؤولة عن مقتل كولفن وأمرتها بدفع تعويضات بقيمة 300 مليون دولار لعائلتها.