"الهيبة": خلاصة الذكورية المتفلّتة
تجري التحضيرات للجزء الثالث من مسلسل «الهيبة» الذي حقّق نسب مشاهدة مرتفعة في الموسمَيْن الماضيَيْن. في الجزء الأوّل، رضخت نادين نجيم لقيَم العائلة. وفي الجزء الثاني، تعرّضت نيكول سابا للضرب من زوجها «الشهم». فأيّ صورة للمرأة ستظهر في الجزء الثالث مع سيرين عبد النور؟
ربّما لم يمرّ على قصر قريطم ومحيطه زمنٌ أسوأ من الزمن الحالي. حتّى في الأيام التي كان يُغلَق فيها الشارع المؤدّي إليه، كانت المنطقة تبدو أكثر حياةً. اليوم يبدو القصر شبه مهجور، دون أثرٍ للحياة خلف الأبواب الموصدة معظم الوقت، حاله في ذلك حال المحلات الكثيرة الفارغة من حوله.
لكنّ شيئاً من التبدّل ظهر مؤخّراً، افتتح محل حلاقة قبالة القصر مباشرة، «صالون جبل للحلاقة الرجالية». يعلو الاسمَ صورة على امتداد الواجهة الزجاجية لشخصية جبل شيخ الجبل، مذيّلةٌ بواحدة من عباراته الشهيرة: «منتهية». وإن كنّا لا نعرف بالضبط ما المقصود بـ«منتهية»، إلّا أنّها بالتأكيد لا تشير إلى الصالون العامر بالشبّان الموزَّعين على كراسي الحلاقة والمنتظرين دورهم، ولا تشير بالطبع إلى انتهاء مسلسل «الهيبة»، الذي ظهر فيه جبل، بعد إعلان الشركة المنتجة مؤخّراً عن جزء ثالث سيبدأ تصويره مطلع العام المقبل.
لا تنبئ هيئة الحلّاقين بأيّ تشابه مع جبل: يستقبلك شبّان ضعاف البنية، هيئتهم أقرب لجاستن بيبر ممّا هي لزعيم "الهيبة"، بوجوه بشوشة وكلمات مرحّبة، ومن دون كلاشينكوف في أيديهم طبعاً. يعدني الحلاق، وهو يضحك من سؤالي عن سرّ التسمية، بأنّني سأحظى بقصّة شعرٍ «أحلى من قصّة جبل»، ويشرح أنّ غاية التسمية كانت إعطاء هويةٍ خاصةٍ للصالون لجذب المارّة وخلق حالة من الحشرية لديهم لتجربة المكان.
ليس هذا الصالون أول مشروعٍ تجاري يستغلّ شعبية «الهيبة» وعلى الأغلب لن يكون الأخير. فقد افتتحت في العامين الأخيرين الكثير من المحال التي تحمل أسماء مرتبطة بالمسلسل: «اكسبرس شيخ الجبل»، «أراغيل الهيبة»، «ميني ماركت جبل». يحرّكهم في ذلك الإعجاب بالشخصيات والرغبة بالاستفادة من شعبية المسلسل الذي تدور أحداثه في قرية بقاعية مفترضة، متتبعاً الصراعات بين مافيات السلاح والمخدرات والتهريب من خلال شخصية جبل شيخ الجبل وعائلته.
ليس هذا النجاح بغريبٍ عن مسلسلات الأكشن التي تحظى عادةً بنجاحٍ جماهيريٍ كبير. وهو الحال مع «الهيبة» (إخراج سامر البرقاوي)، الذي أفاد أيضاً من استعانته بممثّلين مشهورين على رأسهم تيم حسن ونادين نجيم ومنى واصف ونيكول سابا. يتبيّن ذلك من خلال إحصاءات المسلسل الذي حظي بنسب مشاهدةٍ عالية نسبياً، إذ حلّ جزؤه الأوّل ثالثاً على قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة في رمضان 2017 بنسبة مشاهدة بلغت 13%. ورغم انخفاض هذه النسبة إلى 10% مع عرض الجزء الثاني «الهيبة: العودة» في رمضان الفائت، إلّا أنّه حافظ على مركزه الثالث في القائمة.
وإن كانت عوامل متعدّدة قد أدّت لنجاح «الهيبة»، فإنّ بطله جبل (أدّى الدور تيم حسن بإتقان كعادته) هو مَن ضَمن للعمل هذا القدر الكبير من الشهرة.
شيخ الجبل
تملك شخصية جبل كلّ العناصر الجاذبة للمشاهد، وهي التي تبدو كنسخةٍ معدّلةٍ عن شخصية تاجر المخدّرات الشهير بابلو اسكوبار. نحن أمام رجل متمرّد وخارجٍ عن القانون يقود عصابة مسلّحة تمارس تهريب مختلف أنواع البضائع، القانونية منها وغير القانونية. رجلٌ كهذا، سيكون قاسياً وصلباً، كما يدلّ اسمه، لا يهاب الدولة ولا رجالات العصابات الأخرى، ولا يتورّع عن قتل من يقف في وجه مصالحه. لكنّ لجبل جانباً خيّراً، فهو يحارب «الزعران» ويحمي الضعفاء ويعطف على المساكين، ويقدّس العائلة ويجلّ والدته. إلى جانب هذه الصفات الإسكوبارية، فإنّ جبل قويّ البنية، حسن الهيئة، يظلّ بكامل أناقته ووسامته حتّى في أصعب الظروف.
أشعلت هذه المقوّمات الذكورية رغبة جزءٍ كبيرٍ من الرجال في تمثّل هذه الشخصية والتماهي معها، وكذلك من النساء اللواتي وجدنَ فيها صورة مثالية عن فارس الأحلام المشتهى.
يقدّم «الهيبة» عالماً من الذكورية المتفلّتة من أيّ عقال، ويمثّل جبل ذروتها. لكنّ المسلسل لا يأخذ بالضرورة أيّ موقفٍ اعتراضي على هذا العالم، بل يبدو في مواضع كثيرةٍ كمن يشجّع عليها، أو على الأقل متصالحاً معها.
منذ البداية يبالغ المسلسل في إظهار عجز الدولة التام، إلى درجة أن جبل المطلوب بمذكرات توقيف لا عدّ لها، يتجوّل بأريحية من مكانٍ إلى آخر دون أن يقدر أحد على إيقافه (وهو ما يتناقض مع شهادات كلّ تجّار المخدرات في منطقة البقاع). عدا عن ذلك، تقدَّم لنا مفاهيم كالقتل وحمل السلاح والأخذ بالثأر كعلاماتٍ على الرجولة فـ«ابن شيخ الجبل إذا خرطش بيقوّص»، كما يوصي جبل شقيقه الأصغر صخر. ويحوّل السلاح إلى لعبةٍ للصغار، فنرى جبل جونيور، يدخل غرفة عمّه صخر ويستكشف المسدس الموضوع بشكلٍ عادي على الطاولة، قبل أن يعلّمه صخر بنفسه كيفية حمل السلاح واستخدامه. لا يقف الأمر هنا، إذ يعود الرجل للدفاع عن فعله أمام اعتراض أمّه عليا (تؤدّي دورها نادين نجيم) التي يقدّمها المسلسل كامرأة «كلاس» و«نكدة»، لا يبدو رفضها لنمط حياة الأسرة نابعاً من منطلقٍ منطقي أو أخلاقي بل من حالة قرف طبقية.، وهي لن تلبث طويلاً قبل أن تنخرط لاحقاً في حياتهم إثر وقوعها في حبّ جبل.
بين العگيد والزعيم
تصل الأحداث في نهاية الجزء الأوّل إلى خواتيمها. ورغم احتوائه مشاكل متعدّدة في المعالجة وفي المضمون، فإنّ السيناريست هوزان عكو نجح في تقديم حبكةٍ درامية متماسكة بعض الشيء أوصلت المسلسل إلى برّ الأمان درامياً. لكنّ ذلك لم يُشبع رغبة الشركة المنتجة الساعية للاستفادة من شعبية المسلسل، ممّا دفعها لإطلاق جزءٍ ثانٍ تولّى كتابته باسم السلكا، معتمداً على زمنٍ سرديٍ سابق لأحداث الجزء الأوّل. جعل ذلك «الهيبة: العودة» فاقداً للتشويق منذ البداية. ومع الافتقار لكاتبٍ محترفٍ، انكشف خواء المسلسل وانهار تماسك أحداث الجزء الأوّل لنجد أنفسنا أمام خطوط سردية مفتعلة ومتقطّعة.
مع غياب التشويق وضعف الحبكة، اضطّر صنّاع العمل للتعويض عن ذلك بالإفراط في مشاهد العنف والقتل والشتائم والصراخ والتهديد و«فزعات الرجال» التي تقع بمناسبة وبدونها. حوّل ذلك «الهيبة» إلى ما يشبه نسخة معاصرة من سلسلة "باب الحارة" الشهيرة. وجعل من شخصية جبل أقرب إلى شخصية العقيد أبو شهاب ممّا هي إلى شخصية بابلو إسكوبار. «أبو شهاب» بقاعي لكنّه يتكلّم اللكنة الشامية نفسها، يحمل بدل الشبرية كلاشنكوف ويملك قصّة شعر على الموضة ونظّارات «راي-بان». لم يقف التشابه هنا، بل استمر مع الذكورية المفرطة في تعامل رجال «الهيبة» مع "حريمها» والوضع الدوني/ التابع للمرأة فيه.
«أخت رجال»
لا كيان مستقلّاً للمرأة في «الهيبة» عن الرجل. تحضر الشخصيات الأنثوية انطلاقاً من قربها من جبل، فهنّ: أمّه، وزوجته، وشقيقته. وهنّ إلى ذلك يكتسبن قيمتهن منه، لا من أنفسهن، إليه المنتهى ومنه المبتدأ. لا يقطعن بأمرٍ دون مشورته، ولا يلجأن إلى سواه. وهنّ إذا خالفنه لا يخالفنه إلّا رغبةً بتمثّل جسارته وقوّته، كما في زواج شقيقته منى من الأستاذ الجامعي مجدي.
تستمدّ منى تصميمها على قرارها، رغم رفض العائلة، انطلاقاً من كونها ابنة سلطان شيخ الجبل وشقيقة جبل شيخ الجبل، أيّ أنها "أخت رجال". لكن، وعلى الرغم من تمرّدها النسبي، سيثبت زوجها مجدي سريعاً صحّة رأيّ جبل وستقضي منى معظم حلقات المسلسل وهي تسعى للطلاق منه.
يمتلئ «الهيبة» في جزأَيه بالكثير من المشاهد التي تهين المرأة وتقلّل من شأنها، بحيادية تقارب التبرير في كثيرٍ من الأحيان.
في الحقيقة، تختصر عبارة "أخت الرجال" الكثير من الكلام عن نساء عائلة جبل، لا شقيقته منى فقط بل ووالدته ناهد وحتّى أم علي التي تعمل في خدمتهم. تتردّد العبارة غير مرّة في المسلسل لوصف شجاعتهن وقوّتهن، لا سيما عندما يحملن السلاح في نهاية الجزء الأوّل لصدّ هجوم الأعداء على منزلهن.
يمتلئ «الهيبة» في جزأَيه بالكثير من المشاهد التي تهين المرأة وتقلّل من شأنها، بحيادية تقارب التبرير في كثيرٍ من الأحيان. يبدأ ذلك مع الجزء الأول، حين تضطر عليا المتمرّدة للاستسلام والاستقرار في منزل أسرة شيخ الجبل مخافة أن ينتزعوا ابنها منها، لتتماهى تدريجياً مع العائلة. لكنّ الأمور تفلت تماماً في الجزء الثاني، حيث يتمظهر العنف بشكلٍ أكثر فجاجة، بدءاً بالطريقة المهينة التي صوّرت فيها النساء اللواتي صرن غصباً جزءاً من شبكة للإتجار بالنساء، ومن ثمّ بعلاقة جبل بزوجته سميّة.
منذ اللحظة الأولى، يقدّم المخرج كافة المبرّرات الأخلاقية لجبل في قراره الزواج من سميّة السعيد (نيكول سابا)، ابنة عدوّهم الأوّل الذي قتله شقيقه لاتهامه بأنّه من اغتال والدهم في عرس جبل على حبيبته. «يضحّي» جبل إذاً على أكثر من صعيد، فهو تخلّى عن حبّ حياته في يوم عرسه، وتزوّج بفتاةٍ يكنّ العداوة لها ولعائلتها، فقط لإبعاد الفتنة وعمليات الثأر المتبادل عن القرية. بالكاد يُظهر لنا صنّاع العمل معاناة سميّة التي أجبرتها التقاليد على التخلّي عن حبيبها غصباً.
هذا التركيز على «شهامة» جبل وتضحيته، يصير شماعةً لتبرير قسوته وفظاظته مع زوجته الجديدة. لكن مشهد الذروة يتأخر إلى الحلقة الثالثة عشر، حين ينهال جبل على سميّة بالضرب مستخدماً حزامه الجلدي، لأنّها أفشت أسراراً عائلية. ورغم وصول صراخها من الألم إلى شوارع القرية، فإنّ ذلك لم يكن كافياً لكي تقوم أم جبل وتوقف دموية ابنها. فهي حين تسمع صراخ كنّتها، تكتفي بهزّ رأسها موافقةً وتمنع ابنتها من التدخّل، فسميّة هذه "بتستاهل"!
ما رأيناه في الجزأين الأوّلين، يبشّرنا بأنّنا سنكون أمام جرعات إضافية من الدمويّة والعنف والذكورية المجانية.
بعد أن رضخت عليا (نادين نجيم) في الجزء الأوّل، وضُربت سميّة (نيكول سابا) وطُلّقت في الجزء الثاني، لن يكون غريباً أن يقتل جبل الشخصية التي ستؤدّيها سيرين عبد النور في الجزء الثالث. وإن كان القيمون على العمل متكتمين على قصّة "الهيبة: الحصاد"، فإنّ ما رأيناه في الجزأين الأوّلين، يبشّرنا بأنّنا سنكون أمام جرعات إضافية من الدمويّة والعنف والذكورية المجانية. يبقى الأمل أن يكون الجزء الثالث هو الجزء الأخير، لكي لا نصير أمام ملحمة هزلية بلا نهاية على نسق «باب الحارة».