"الهرج والمرج" هو ما يحصل في المحاكم الطائفية

"الهرج والمرج" هو ما يحصل في المحاكم الطائفية

في كل مرة يتم تقديم مشروع قانون من شأنه إعطاء المرأة حقوقها البديهية كحمايتها من العنف مثلاً، يجابه بالممانعة والرفض والعنف.

هكذا جرى وقت تقديم مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري (قانون 293/2014)، وتمّت المماطلة في البحث به وأخذ إقراره مع إدخال تعديلات عليه سبع سنين، واليوم، يتمّ التعامل مع مشروع تعديل القانون 293 في الطريقة ذاتها.

خلفية

أقر قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري في 1 نيسان2014 ، لكنه تضمّن ثغرات عديدة حالت دون تطبيقه بشكل فعال. اعتمد بعض القضاة على اجتهاداتهم الخاصة لسنوات لتغطية ثغرات القانون وحماية المرأة المعنفة. إلا أن ذلك لم يكن كافياً خصوصاً وأن الأمر يعود الى كل قاضي ويختلف من قاضٍ الى آخر. وبعد 3 سنوات ونصف من إقرار القانون، أعدت "كفى" دراسة تحليلية لقرارات الحماية التي اتخذها القضاة، كانت بمثابة "جردة حساب" نوقشت مع القضاة وتوصلت فيها الى ضرورة تعديل النص القانوني. وقامت لجنة خاصة تضم "كفى" ووزارة العدل بصياغة اقتراح لتعديل القانون واطلق التعديل في وزارة العدل بالشراكة مع الهيئة الوطنية لشؤون المرأة ووزير الدولة  لشؤون المرأة ووزير الدولة لحقوق الانسان. قام وزير العدل آنذاك بتقديم المقترح الى الحكومة في 7 نيسان 2017. ثمّ طرح رئيس الجمهورية مشروع  التعديل من خارج جدول الأعمال في 3 آب 2017 وتمّ إقرار المشروع بالإجماع.

وفي 26 تشرين الثاني من العام 2018، وقّع 10 نواب من كتل سياسية مختلفة على اقتراح تعديل القانون وقدّموه لمجلس النواب لإقراره. وعقدت اللجان النيابية المشتركة لغاية اليوم عدّة إجتماعات لدراسة مشروع القانون.

أبرز التعديلات التي تضمنها مشروع القانون هي:

إعادة تعريف الأسرة بحيث تشمل الزوجين أيضاً بعد انفصالهما لأن الانفصال لا يمنع  المعنف من ارتكاب التعنيف.
إعادة تعريف العنف الأسري ليعكس أيضا استعمال السلطة داخل الأسرة بالقوة الجسدية أو غيرها.
إعتبار جريمة العنف الأسري بموجبه جريمة قائمة بذاتها عن طريق إدراج نص خاص للعقوبات يغني عن العودة إلى نصوص قانون العقوبات.
إعتماد مبدأ تخصص القضاة في قضايا العنف الأسري.

تخصيص أمر الحماية للنساء.

شمول الحماية للأطفال بغض النظر عن سن حضانتهم.

إلزامية جلسات التأهيل للمعنف في قرار الحماية.
تفعيل آلية تنفيذ قرارات الحماية  ليصبح التنفيذ عن طريق النيابة العامة.

هجوم

عند تقديمنا لمشروع القانون هذا، شُنّ علينا، كما العادة، هجوم شرس، وتحديداً من رجال الدين.

 في كل مرّة نطالب فيها بالمساواة وبالحماية القانونية وبالحقوق البديهية، تتكرّر الإتهامات الجاهزة: التحريض على الرجال، قبض الأموال المشبوهة، تنفيذ أجندة غربية، مخالفة الدستور، إحداث هرج ومرج، إرتجال وتسطيح...  وفي كلّ مرّة أيضاً، نواجه بغضب يحمل في طيّاته خوفاً من تحرّر النساء وخوفاً على المساس بمصالح رجال الدين ومساءلة سلطتهم على حياة الناس.  

في هذا المقال سنردّ على الملاحظات العامة التي وردتنا، وعلى الملاحظات المتعلّقة بالبنود الخاصة الواردة في إقتراح تعديل القانون 293/2014.

في الردّ على الملاحظات العامة: 

أولاً – المادة التاسعة من الدستور:

ـتشكل المادة التاسعة من الدستور الشماعة التي تتمسك بها المحاكم الطائفية للوقوف بوجه أي تعديل يتعلق بقضايا النساء أو الأطفال. فلقد سبق أن أثيرت هذه المادة، وبحدة، عند بداية دراسة مجلس النواب - وقبله مجلس الوزراء - لاقتراح القانون 293/ 2014 . فما يقال الآن، على إقتراح تعديل القانون 293/2014، ليس بجديد، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانوا قد رؤوا في القانون 293 مخالفة للمادة التاسعة من الدستور فلماذا لم يطعنوا بالقانون بعد إقراره في العام 2014 أمام المجلس الدستوري للبت فيما إذا كان القانون 293 مخالفاً للدستور أم لا، إذ أنهم ليسوا المرجع الصالح لللحكم في هذا الموضوع. وبما أنهم لم يفعلوا ذلك عند إقرار القانون 293، من غير الجائز الآن التمسك بهذه الحجّة للتصدي لاقتراح التعديل على القانون 293 الذي يناقش حالياً في مجلس النواب، حيث أن هذا الاقتراح لم يمس بجوهر الأسباب الموجبة للقانون 293، إنما إقتصر على بعض الإجراءات العملانية والتنفيذية لتفعيل مضمون قرارات الحماية التي لم يطالها التعديل. من هنا، فإننا لا نجد جدوى في إعادة النقاش الى ما قبل العام 2014 تاريخ إقرار القانون 293، وهذا التهويل والتهديد بالمادة التاسعة من الدستور لم يعد يستوجب الرد، فلو كان الأمر بهذه الخطورة، لما كانوا قد ترددوا في تقديم دعوى أمام المجلس الدستوري للطعن بالقانون 293.

يطالب جميع اللبنانيين بتطبيق اتفاق الطائف، وهذا ما نطالب به نحن أيضاً، ونطالب خاصة بتطبيق المادة التاسعة على ضوء تعديلات الطائف وبشكل خاص مقدمة الدستور التي التزمت فيها الدولة اللبنانية بتجسيد حقوق الانسان في كل المجالات بدون استثناء.

وضع هذا الالتزام حداً نهائياً للقراءة القديمة للمادة التاسعة، وكرس أولوية حقوق الانسان المواطن. ولقد صدر عن المجلس الدستوري قراراً واضحاً لجهة اعتبار أن أحكام مقدمة الدستور تتمتع بقوة احكام الدستور الأخرى.

ثانياً – بالنسبة للهرج والمرج:

بالنسبة لما يسمونه بـ "الهرج والمرج"، فإن الهرج والمرج هو ما يحصل في المحاكم الطائفية التي تغيب عنها اعتبارات العدالة، فتدوس على أوجاع ومعاناة النساء وتلعب دور الحامي والحارس الأمين للمفاهيم الذكورية السائدة في المجتمع. فبعضها لا يمنح الطلاق للمرأة وإن شوهدت ودمها سائل على الأرض لأن الطلاق في يد الرجل وحده، هو امتلكها وهو يقرر أن يعتقها. الهرج والمرج هو عندما يرى القاضي الطائفي أن 400 الف ليرة لبنانية كافية كنفقة لإمرأة مع ستة أطفال دون إجراء دراسة لإحتياجات هذه العائلة تكون مسنودة الى معايير اقتصادية علمية، فتصبح مزاجية القاضي في هذه الحالات هي الحكم. لذلك فإن ما يعتبره القيّمون على الطوائف تداخلاً في الصلاحيات، نعتبره نحن تصويباً للإختصاص، لأن القضاء العدلي هو الصالح للنظر بالخطر الذي يهدد الأفراد وبوضع حد لهذا الخطر وحمايتهم منه، بمن فيهم الأطفال الواجب حمايتهم في حال وجدوا في بيئة تسيء معاملتهم وتهدد صحتهم الجسدية والنفسية.

ثالثاً – إرتجال وتسطيح

إن الإرتجال والتسطيح الذي يتهمون الآخرين به يكمن في التهرب من مناقشة القانون بموضوعية وبمقاربة الواقع ومدى قدرة القوانين الحالية على الإستجابة لهذا الواقع. أما الغمز من قناة مصادر تمويل الجمعيات،  فإن شفافيتنا في الكشف عن مصادر تمويلنا كافية لتدحض أي شكوك، وهي لا تشكل اي حرج لنا خاصة وأنها هي  نفسها مصادر تمويل معظم مؤسسات الدولة. وحبذا لو كانوا قد طالبوا بالكشف على مصادر الهدر والفساد على كل مستويات إدارات الدولة، المدنية وغير المدنية. 

في الردّ على الملاحظات الخاصة:

أولاً -  في شمول الأسرة لما بعد انحلال الرابطة الزوجية

إن الهدف من إمتداد مفعول القانون لما بعد انحلال الرابطة الزوجية هو، كما ورد في أسباب التعديل، لسد الثغرة في هذه المادة التي مكّنت العديد من المعنّفين التهرب من تنفيذ الأحكام الصادرة بموجب هذا القانون لمجرد حصول الطلاق.

صحيح أن الطلاق الرجعي هو محصور بالطائفتين السنية والشيعية، لكن القانون العام لا يشرع لحالات خاصة ولا يمكن أن يتضمن مصطلح "كالعدة الرجعية" لا تنطبق على جميع المواطنين. فالنص يأتي عاماً، لكنه يشمل ضمناًعدة فئات من المجتمع يكون لكل منها حالة معينة تميزها عن الأخرى دون أن يذكر القانون هذه الحالات بالتفصيل.

لو كان الأمر عائداً لنا، لكنا رغبنا بشمول اكبر عدد من النساء بالحماية بغض النظر عن أوضاعهن الخاصة والتي تكون موجودة في بيئة معينة ومرفوضة في بيئات أخرى. فنحن لا نهوى لعب دور النعامة لنغرق رؤوسنا في الرمال ونرفض مواجهة الحالات المتنوعة التي هي واقع حسي ومكرس في مجتمعنا. فمنذ النسخة الأولى للقانون 293، كنا نطالب بأن تشمل الحماية النساء الموجودات في علاقات المساكنة وهي علاقات موجودة ومقبولة في بعض المجتمعات اللبنانية وكذلك النساء الموجودات في علاقات زواج مؤقت وهي علاقات موجودة ومقبولة في مجتمعات أخرى. والنساء ضمن هذه العلاقات سواء المساكنة أو الزواج المؤقت غير محمية ولا مصانة حقوقها. لكن طبعاً العقلية الذكورية والطائفية الناكرة للحالات الإجتماعية والمتمادية في دس رؤوسها في الرمال حالت دون شمول هذه النساء بالحماية.

إضافة الى كل ما تقدم لا يخفى على أحد أن النساء وأثناء السير بالتقاضي أمام المحاكم الشرعية أو الروحية أو المذهبية وفي القضايا الخلافية التي تلي الطلاق، تتعرض للكثير من الضغط والتهديد والإعتداء الجسدي أحياناً لتتنازل عن حقوقها بالمشاهدة أو بالحضانة أو نفقة الأولاد وهي الحقوق التي تأتي بعد الطلاق. إضافة الى أنه وبالتجربة العملية فقد صدر قرار حماية لإمرأة من طليقها باجتهاد من أحد القضاة الذي اعتبر أن العنف الذي تتعرض له المطلقة من قبل طليقها هو ناتج عن استمرار مفاعيل العلاقة الناشئة عن الرابطة الزوجية.

إن الضحية "زهراء القبوط" التي قتلت بالرصاص على يد طليقها لأنها رفضت الرجوع اليه بعد محاولاته المتكررة في إرجاعها، هي مثال صارخ على الحاجة إلى توسيع مفعول القانون لما بعد انحلال الرابطة الزوجية، وكذلك الضحية "لطيفة قصير" التي قتلت خنقاً على يد طليقها بعد أن تهجم عليها في منزلها ولم تكن المرة الأولى التي يحصل فيها هذا التهجّم بالرغم من شكواها عليه تكراراً. ولم يتم ردعه بل تم الإكتفاء بتوقيعه على منع تعرض ليس له اي مفعول قانوني بحسب القانون العام. ومن الأمثلة الصارخة أيضا الضحية "نسرين روحانا"، التي قتلت بعد إنفصالها عن زوجها حيث أقدم على قتلها بعد أن اختطفها من مكان عملها. فإذا كنتم لم تسمعوا بهؤلاء النساء وغيرهن الكثيرات يعني ذلك أنكم على مسافة بعيدة من الواقع المرير الذي تعيشه النساء في مجتمعنا الذكوري حتى بعد إنقضاء العلاقة الزوجية.

ثانياً - تعريف العنف الأسري على أنه سوء استخدام للسلطة

إن توصيف مجتمعنا بالمجتمع الذكوري الأبوي لا يحتاج الى دليل. ومن المؤكد أن هناك فرق بين العنف العام الذي يمارس بين الأفراد دون أن يكون لأحدهم سلطة على الآخر وهذا أمر يغطيه القانون العام، وبين العنف الذي يرتكبه صاحب السلطة ضد من هم خاضعين لسلطته وعاجزين عن مواجهة هذه السلطة ونقصد هنا السلطة الواقعية التي يتسامح معها المجتمع الذكوري أو السلطة القانونية المكرسة في بعض النصوص القانونية ولا سيما قوانين الأحوال الشخصية.

كما أن الكل يُجمع أن أكثر أفراد الأسرة هشاشة هم النساء والأطفال، وبديهي القول أن الفئات الضعيفة أو المستضعفة لا تملك القدرة على مواجهة المعنّف إذا ما كان يمارس السلطة عليها، وفي هذه الحالة يكون العنف وإساءة المعاملة ترجمة لسوء استخدام السلطة. هذا يستدعي تدخل الدولة لحماية الأفراد ووضع حد لإساءة استخدام السلطة. فالعنف الناتج عن سوء استخدام السلطة هو سلوك متعمّد موجّه ضدّ الأفراد، الهدف منه إخضاعهم بالقوة لهذه السلطة والسيطرة عليهم، وإفقادهم القدرة على مواجهته أو مقاومته.

وفي ظل وجود قانون خاص لحماية الأطفال من العنف واساءة المعاملة وهو القانون 422، كان لا بد من إيجاد آلية لحماية النساء من العنف الذي يتعرضن له ممن يمارسون السلطة عليهن داخل الأسرة، فكان القانون 293 والهدف الأساسي منه حماية النساء من العنف داخل الأسرة، مستندين الى مفهوم العنف ضد المرأة الذي يعتبر أن ظاهرة العنف ضدها هي تجسيد لعلاقات قوى غير متكافئة بين الرجل والمرأة عبر التاريخ، أدّت الى هيمنة الرجل على المرأة وممارسته التمييز ضدها والحيلولة دون نهوضها الكامل، وأن العنف ضد المرأة هو من الآليات الاجتماعية الحاسمة التي تفرض على المرأة وضعية التبعية للرجل.(حسب ما جاء في الإعلان العالمي للعنف ضد المرأة).

وهذا الواقع ليس حكراً على لبنان بل إن ظاهرة العنف ضد المرأة هي ظاهرة عالمية ولذلك استدعت تدخل الأمم المتحدة عبر الإتفاقيات والإعلانات التي صدرت عنها وطلبت من الدول التصدي لهذه الظاهرة وحماية النساء من العنف. فرفض التعديل اعتراضاً على معيار اساءة استخدام السلطة داخل العائلة يؤكد على العصبية الجنسية التي ينطلق منها هذا الإعتراض، لأن المعترض هو على يقين بأن مرتكب العنف هو الذكر (وليس الرجل) في أغلب الأحيان، وهو يرفض محاسبة هذا الذكر وتحميله مسؤولية تعسفه في استخدام السلطة. وهذا ما يسمى بالتمييز الناتج عن عصبية الجنس الذي يريد للسلطة الذكورية أن تكون مطلقة دون رقيب أو حسيب.

إضافة الى ذلك، إن الهدف من تعريف العنف داخل الأسرة على أنه سوء استخدام للسلطة لا يعني كما يزعم البعض، أن العنف الصادر عن شخص لا يمتلك السلطة أصبح مبرراً، بل على العكس، هو للحؤول دون استغلال هذا القانون وعقوباته المشددة لتشمل أفعال تصدر عن بعض أفراد الأسرة ويشملها القانون العام. فإذا حصل نزاع بين أخوين على أي موضوع مثل التعدي أثناء البناء أو الخلاف التجاري اذا كانوا شركاء في عمل تجاري واحد وأقدم أحدهما على قدح وذم الآخر أو على ضربه فلا يمكن السماح لأحدهما باستغلال قانون العنف الأسري لإتخاذ إجراءات بحق أخيه غير الإجراءات التي ينص عليها القانون العام وهذا الأمر قد واجهه المحامون العامون الأسريون.

صحيح أن تطبيق القانون في الفترة السابقة قد أدى الى صدور قرارات حماية أغلبها بحق زوج أو أب أو أخ فذلك هو أمر طبيعي لأننا في مجتمع ذكوري والسلطة داخل أسرنا في أغلبها هي للذكور سواء كانت سلطة قانونية أو سلطة واقعية.

أما بالنسبة لمصطلح "أو غيرها" الوارد في تعريف العنف الأسري فهو ضروري للدلالة على أن إساءة إستخدام السلطة ليس محصوراً بالإعتداء الجسدي ولا يمكن حصره بصورة واحدة أو بصور محددة لأن  هناك أشكال عنف معنوية لا يمكن إثباتها بتقرير طبيب شرعي وهي الأكثر شيوعاً من العنف الجسدي، لكن المظهّر للعلن هو العنف الجسدي الذي تراه العين ويمكن إثباته بتقرير طبي. وإقتراح الغاء هذا المصطلح أو التخفيف من أهميته هو تسطيح و استخفاف بأشكال العنف المتعددة التي تمارس فعلياً، مثل حجز الحرية وانفاق أموال الأسرة بغير موضعها لحرمان مستحقيها من النفقة، ومنع الأم من مشاهدة أطفالها وغيرها الكثير من الأفعال التي يمارسها المعنف للضغط على الضحية وإخضاعها لسلطته وشروطه.

بالنسبة للتخوف من الإستنسابية واستغلال النص القانوني فهو غير مبرر وينتقص من جدارة القضاة العدليين وقدرتهم على تكييف النص والتمييز بين الفعل المتعمّد والقصدي في إيذاء الضحية (وهو عادة ما يكون فعلاً متكرراً)، وبين الفعل الظرفي الطارئ. الا أننا نتفهم هذا التخوف من الاستنسابية كونها هي السائدة في محاكم الأحوال الشخصية خاصة المحاكم التي لا تستند الى نص قانوني واضح.

إن المغالاة في ردة الفعل على شمول المحرض والمتدخل والشريك مستغرب وفي غير موضعه ولا يستدعي الرد المطول، لأن المحرض والمتدخل والشريك وبحسب قانون العقوبات، هم مشمولون بالعقوبة في كل الجرائم الذي ينص عليها القانون وليس هناك حاجة لنص خاص. وما ورد في اقتراح تعديل القانون ليس سوى تأكيد على المبدأ العام.  والموضوع لا يستدعي اجراء دراسة عن تعريف المحرض ودوره بالفعل الجرمي، إذ كان بالإمكان بما أنه تم الإطلاع على قانون العقوبات لتعريف المحرض، الإستطراد والإطلاع على المواد التي تعرّف الجريمة وعناصرها والتي يجب أن تشمل الركن المعنوي والمادي. فالنية الجرمية هي ركن أساسي لتكوين الجريمة. فلو حصل الإطلاع على هذه المواد، لما كنا خضنا نقاشاً في أمثلة وهمية لا منطقية. فما ذكر من أمثلة حول إمكانية إعتبار قاضي الشرع أو مفتي الأزهر شريكاً أو محرضاً على إرتكاب الجرم هي أمثلة غير جدية ويجب إسقاطها من النقاش والا قياساً على ما ذكر من أمثلة، يمكن إعتبار المشرع اللبناني الذي يرفض تجريم الإغتصاب الزوجي محرضاً(بالمعنى القانوني) للزوج على إغتصاب زوجته (وهو عنف جنسي). للأسف هذا النقاش اللامنطقي لا يمكن الرد عليه أو الدخول في سجال معه.

ثالثاً: في العقوبات

إن عدم وجود عقوبات محددة لكل جرم يدخل ضمن تعريف العنف الأسري، أوجد إرباكاً في التطبيق أمام القضاء. فتفاوت تفسير القانون بين القضاة، ومنهم من ذهب الى حدّ اعتبار أن العنف الجسدي غير مجرم في القانون 293 الا اذا حصل في معرض الحصول على الحقوق الزوجية.

ومن الثغرات التي عرّضت القانون للإنتقاد، هي أن القانون شمل في تعريف العنف أشكال العنف كافةً منها الإقتصادي والمعنوي، لكنه لم يرتّب أي جزاء على من يرتكب هذه الأشكال من العنف. اعتُبر هذا نقصاً في التشريع وجعل القاضي يعود الى القانون العام ليلائم الفعل المرتكب مع النص العام كي يتمكن من ترتيب جزاء على مرتكبه. من هنا ارتأت وزارة العدل أن تكون جريمة العنف الأسري جريمة قائمة بذاتها، وبسبب عدم القدرة على حصر الأفعال العنفية، تم اعتماد الضرر الناتج عن الفعل العنفي  لترتيب الجزاء الملائم له. ولا نعتقد أن هناك من هو أكثر خبرة من وزارة العدل وهيئة الإستشارات والتشريع فيها في مسألة الموازنة بين الجرم والعقوبة.

أما فيما يخص جريمة الزنا، فإننا لنعجب من ردة الفعل حول طلب الغائها. فلطالما تمسّكت المراجع الدينية عامةً ومحاكم الأحوال الشخصية خاصةً بكل ما يختص بالأسرة والعلاقة بين أفرادها، ورفضت تدخّل القضاء العدلي بها معتبرة إياه تعدياً على صلاحياتها.

يعتبر فعل الزنا إخلالاً من قبل أحد أطراف العقد بالموجب المترتب عليه في عقد الزواج، وبالتالي فإن هذا الإخلال هو موضوع شخصي، يتعلق بأطراف العقد ولا شأن للمجتمع به. بما أن قانون العقوبات يتدخل ليرتب عقوبة على الجرم الذي له علاقة بالمجتمع والسلوك الإجتماعي، وبما أن عدم الإلتزام من قبل أحد الزوجين بمضمون عقد الزواج وإقدامه على إقامة علاقة مع غير الزوج هو أمر لا يتعدّى الإخلال بموجب تعاقدي، يجب بالتالي أن تبقى المفاعيل المترتبة عليه ضمن قضاء الأحوال الشخصية ليرتب عليه سبباً رئيسياً للطلاق مع التعويض للطرف المتضرر ولا يتعداه الى إنزال عقوبة الحبس وإعتباره جريمة بحق المجتمع.

لماذا إذاً هذا الإستغراب كله؟ فحتى في النصوص الدينية، لا يخفى على أحد أن فعل الزنا لا يُعاقب عليه في النص الديني الا في حالة توفر أربعة شهود (بحكم المجامعة العلنية). هل من العدل أن تحاكم الضحية "منال عاصي" بجرم الزنا بعد وفاتها، دون أن يكون لها حق الدفاع عن نفسها، لمجرد إعتراف شخص بإقامة علاقة معها وزعم زوجها أنها اعترفت له قبل مماتها أنها على علاقة مع آخر، ومنال تحت التراب لا تستطيع أن تؤكد أو تنفي هذا الدعاء؟ ربما لو أتيحت لها فرصة الدفاع عن نفسها لوجدنا أنها هي من تمّت خيانتها وأن زوجها هو من كان يجب أن يحاكم بجريمة الزنا. الهدف من المحاكمة كان منح قاتل "منال عاصي" الأسباب التخفيفية المسندة الى ثورة الغضب. إن الإبقاء على جريمة الزنا يجعل الغاء المادة 562 من قانون العقوبات بلا أي مفعول عملي ولذلك يجب استكمال إلغاء مفاعيل المادة 562 عبر الغاء المواد 487-488-489 من قانون العقوبات وتعديل المادة 252 منه.

رابعاً: في دور الإختصاصية الإجتماعية

كنا نتمنى لو  قامت وزارة الشؤون الاجتماعية بواجبها وأعدت لائحة بأسماء المساعدات الاجتماعات وهي اللائحة المطلوبة منها بموجب القانون 293 لمساندة الضحية خلال التحقيق بشكوى العنف الأسري. لكن هذا لم يحصل، والقرار في وزارة الشؤون الاجتماعية لم يؤخذ بعد بالتدخل لتقديم هذه الخدمة للضحايا، رغم قيامنا بالشراكة مع الوزارة بتدريب 75 أخصائية اجتماعية على القانون 293 وعلى دورهن بموجب هذا القانون. لكن وزارة الشؤون لم تعلن لغاية تاريخه عن اللائحة المعتمدة من قبلها من الإختصاصيات الإجتماعيات لمساندة الضحايا، وهذا بالتأكيد دور الدولة وليس دور الجمعيات التي تقوم حالياً بسد الفراغ الناتج عن عدم قيام الدولة بمهامها. إزاء هذا الوضع، وبما أنه لا يمكن تأخير التحقيق لحين تأمين اختصاصية اجتماعية، كما لا يجوز معاملة النساء كالقصّر الذين يتوجب مرافقتهم أثناء التحقيق من قبل مندوبة الأحداث، من المفترض أن  يُباشر التحقيق بالشكاوى المقدمة منهنّ دون حضور أخصائية اجتماعية، إلّا في حال طلبت السيدة هذا الدعم. كما انه، ونتيجة للتدريبات التي أجرتها منظمة كفى للعناصر الإناث في قوى الأمن الداخلي بالشراكة مع مديرية قوى الأمن الداخلي على القانون 293 وعلى كيفية تقديم الدعم الإجتماعي للضحايا، أصبح بالإمكان أن تؤمن عناصر قوى الأمن الداخلي من الإناث، المساندة المطلوبة للنساء.

خامساً: في التنفيذ عبر النيابة العامة

إن أسباب التعديل المقدمة مع إقتراح التعديل كافية للدلالة على أهمية إيراد مثل هذا الإجراء. إذ أنه، وبالتطبيق العملي، تبين أن التنفيذ عبر النيابة العامة له فعالية أكبر وأسرع من التنفيذ عبر الكاتب التابع لقاضي الأمور المستعجلة الذي، في كثير من الأحيان، يكون هو نفسه معرض للخطر أثناء الإنتقال لتنفيذ قرار الحماية وبحاجة للإستعانة بالقوى الأمنية لمرافقته في التنفيذ.

 

سادساً: في حماية أطفال الضحية

للأسف، وبما أن موضوع الحضانة لدى الطوائف مرتبط ببلوغ الطفل سناً معيناً وذلك دون الأخذ بعين الإعتبار مصلحة الطفل الفضلى، من الطبيعي أن تعترض المحاكم الطائفية على إخراج أولاد الضحية معها إذا لم يكونوا بسن حضانتها. الموضوع ليس انتزاع صلاحية الحضانة بل هو حماية الأطفال المعرضين للخطر. والقضاة الذين طبقوا القانون 293 إعتبروا أن الطفل الشاهد على العنف هو عرضة للخطر مثل الطفل الذي يقع عليه العنف مباشرةً إذا لم يكن أكثر. إضافة الى أن فصل الأطفال في قرارات الحماية، كأن تخرج الفتاة مع الضحية دون الصبي أو العكس، هو أمر في غاية الخطورة ويؤثر نفسياً على الطفل الذي قد يشعر أن والدته تخلت عنه وفضّلت حماية شقيقته.

فعند وقوع العنف داخل الأسرة، يكون كل الأفراد الموجودين في هذه الأسرة سواء كانوا ضحايا مباشرين أو ضحايا ثانويين (شهوداً على العنف) عرضة للخطر ويجب حمايتهم بغض النظر إذا كانوا راشدين أم قاصرين. ومثلما يستمر قضاة المحاكم الطائفية بالمطالبة باحترام صلاحياتهم، يفترض بهم أن يحترموا بدورهم اختصاص القاضي المدني. فالقاضي، سواء كان قاضياً طائفياً أم مدنياً، يطبّق القوانين المقرة بغض النظر عن قناعته بها. فهو جهة يفترض بها تنفيذ القوانين النافذة الى حين تعديلها من قبل المشرّع، وإلا اعتبر متقاعساً عن إحقاق الحق. لكن بعض قضاة المحاكم الطائفية يعتبرون أنفسهم فوق القانون، فبدل أن ينظروا الى قرارات الحماية الصادرة عن قضاة العجلة كبيّنة على اساءة المعاملة وخطورة المعنّف للبت بالطلاق أوبعدم أهلية الحاضن للحضانة، فإنهم يرفضون كل ما يصدر عن قضاة الأمور المستعجلة من قرارات حماية تطبيقاً للقانون 293، محاولين تجاهل هذا القانون وكأنه غير موجود، مشككين بكفاءة القضاء المدني وقدرته على التحقق من وجود العنف الذي استوجب صدور قرار لحماية الضحية. فمنهم من يتعسف في المماطلة أو في إصدار أحكاما مجحفة بحق الضحية التي لجأت للقانون 293 كقصاص لها، ومنهم من يتجاوز صلاحياته ليحكم بالغاء مضمون قرار الحماية الصادر عن قضاء الأمور المستعجلة.

إن مصلحة الأطفال الفضلى لا تحسب بالأرقام. فحماية أطفال الضحية هو أمر جوهري وضروري حيث أن معظم الضحايا يرفضون الخروج من المنزل وحماية أنفسهن إذا كان ذلك سيفرض عليهن التخلي عن أطفالهن القاصرين وتركهم بين أيدي المعنّف.

سابعاً: في حماية الضحية القاصر

طالما أن الطوائف ما زالت تسمح بتزويج القاصرات وطالما أن الدولة اللبنانية ما زالت متقاعسة عن واجبها في تشريع تحديد السن الأدنى للزواج، فإن للقاصرات اللواتي يتم تزويجهن الحق بالحماية من العنف الذي يتعرضن له بعد الزواج. ومعظم التشريعات العربية التي تسمح بتزويج القاصرات، وحتى بعض الطوائف في لبنان، تُرشد القاصرة فيما ينتج عن الزواج من نزاع. لكن هذا الأمر غير مقر من قبل الدولة اللبنانية. وبما أن قانون حماية الأحداث يعطي للقاصر حق التبليغ المباشر عن العنف الذي يتعرض له، فمن باب أولى إعطاء القاصرة المتزوجة والتي تعاني من عنف زوجي الحق باللجوء الى قاضي الأحداث دون الحاجة الى ولي أمر للإستفادة من الحماية المنصوص عنها في القانون 293.

في الختام إن إقرار إقتراح تعديل القانون 293/2014 هو حاجة ملحة لتفعيل الحماية لضحايا العنف الأسري وما جاء من ملاحظات على لسان مختلف المراجع الطائفية ليس بجديد، فنحن نتوقع في كل مرة تذكر فيها حقوق النساء ومطالبة الدولة بالقيام بواجبها لحماية النساء كمواطنات وحماية حقوقهن، أن نسمع الملاحظات نفسها من قبل الطوائف التي صادرت وتستمر بمصادرة دور الدولة. حياة النساء التي تقتل داخل الأسرة هي أولوية بالنسبة لنا وأهم من الهواجس السلطوية غير المبررة الموجودة لدى القيّمين على الطوائف.