المساواة تحقق مصلحة الفرد وترعب السلطات السياسية والدينية
عادة ما توضع القوانين كي تنظّم المجتمع وتضع حلولاً للمشكلات التي تواجهه، تسهيلاً لحياة المواطنين وتحقيقاً للمصلحة العامة. أما في لبنان بات الفرد في خدمة القوانين التي تتعارض مع مصالحه، وتحقق مصالح السلطات السياسية والطائفية. ما يعاكس المنطق الإنساني ومنطق المواطنة. لذا بات من الضروري أن ينتزع الأفراد حقوقهم، وأن يدفعوا المشرّع لوضع قوانين تحقق المساواة والمواطنة، فتعزز موقع الفرد وفعّاليته في المجتمع. ففي المساواة مصلحة لكلّ الأفراد، حتى للرّجل الذي يعتقد أنّ قوانين الأحوال الشخصية الطائفية قد منحته السلطة والامتيازات دون مقابل. فهي، وعلى صعيد الدولة، انتزعت منه الكثير من الحقوق بمقابل سماحها له باستضعاف المرأة.
بين السلطات الطائفية وتلك السياسية منفعة متبادلة تسحق المواطنين
وتظهر بوضوح علاقة المنفعة المتبادلة بين السلطات السياسية وتلك الطائفية. وكيف صبّت قوانين الأحوال الشخصية المتعدّدة في خدمة النظام الطائفي اللبناني. فقد منحت السلطات السياسية المؤسسات الطائفية مكاسب سلطوية، وتنازلت لها عن سلطة التشريع في ما يتعلق بالأحوال الشخصية. ومنحت السلطات السياسية المؤسسات الطائفية استقلالية مالية، خصصت لهم مبالغ من موازنة الدولة، وسمحت لهم بجباية الرسوم وغيرها.
بالمقابل أدت السلطات الطائفية دورها في خدمة المنظومة. حوّلت المواطنين لرعايا طوائف، عبر تجييشهم وتحريضهم مذهبياً، وحرصت بذلك على تقسيم المجتمع. أقنعتهم بأن الانتماء الطائفي أولى من الانتماء للوطن، وغيّبت مصلحة الفرد باسم الجماعة، بينما انتهَكَت مصلحة الأفراد والجماعات. فتحققت بذلك مصلحة السلطتين.
وبحكم هذه العلاقة، ترى السلطات الطائفية في القانون الموحد للأحوال الشخصية تهديداً لسلطتها ومصالحها، لذا تعارضه بشراسة. وفي إطار محاربتها لقانون مدني يحقق المواطنة، تسعى السلطات الطائفية للتلاعب بمشاعر المواطنين الطائفية، وابتزازهم، بما يسمح لها بالسيطرة المستمرة عليهم.
فتضع الطوائف رعاياها بمواجهة مصالحهم، وتوهمهم بأن القبول بقوانين مدنية يشكّل خروجاً عن الدين. على عكس ما أثبتته التجربة. إذ أثبتت تجربة مواطنين ملتزمين دينياً، هاجروا إلى دول أجنبية، وخضعوا لقوانينها المدنية، أن تلك القوانين لا تمس بإيمان الفرد، وإنما تحقق مصلحته وتنظم علاقته بالآخرين وبالدولة.
فالقوانين المدنية ذاتها التي يرفض رجال الدين تطبيقها في لبنان، هي التي تدفع بالكثير من المؤمنين للهجرة إلى الدول التي تعتمدها بحثاً عن مصالحهم وعن حياة هانئة، يستمرون خلالها بممارسة شعائرهم الطائفية من دون الإضرار بمصالحهم الشخصية. ما يؤكد ضرورة مطالبة اللبنانيين واللبنانيات بقانون أحوال شخصية موحّد، يحقق مصالحهم ويحترم إيمانهم في آن.
الحل قانون موحد للأحوال الشخصية
مع إقرار قانون موحد للأحوال الشّخصيّة، سيختلف الواقع في لبنان سياسياً، سيشكل القانون بدايةً لإنهاء النظام الطائفي، الذي كلف اللبنانيات واللبنانيين كثيراً من الخسائر، في الأرواح والأموال. وسبّب لهم عذابات متواصلة.
إذ يحترم القانون الموحد للأحوال الشخصية مبدأ المساواة بين المواطنين. نساءً ورجالاً، نساءً ونساءً، وسيحقق المساواة الغائبة حتى بين رجل وآخر. حيث تميّز قوانين الأحوال الشخصية الطائفية حتى بين طفل وآخر بحسب انتماءات الوالدين. فتختلف حقوق الطفل باختلاف مذهب والديه.
لا تقتصر الأحوال الشخصية على مسائل الزواج والطلاق والإرث. بل تتعداها لتشمل كل ما يتعلق بهوية الفرد، وتحكُم جميع معاملاته الرسمية وعلاقته بدولته ومحيطه. وتشمل حقه بالحصول على جنسية والدته، إضافة إلى مسألة السجلات الفردية.
ومن منطلق حق المرأة بالحصول على المواطنة الكاملة أسوة بالرجل، فمن حقها أن يكون لها خانة خاصة بها في السجلات الفردية. تسجّل أطفالها على خانتها، ويحملون اسمها هي أيضاً. لتشطب كذلك عبارة "أعيدت إلى خانة والدها" المهينة عن إخراج قيد المطلقة وإخراج القيد العائلي لأولادها. بعد أن تكون "قد نقلت بالزواج" إلى خانة زوجها. حيث تظهر العبارتان عدم الاعتراف بأهلية المرأة واستقلاليتها.
المساواة مصلحة للرجل أيضاً
كما تخفف المساواة من معاناة النساء، فهي تخفف أيضاً من الأعباء الملقاة على الرجل. فالسلطة الممنوحة للرجل بحكم قوانين الأحوال الشخصية، ليست سلطة مجانية. إنما تقابلها أعباء ومسؤوليات، مادية ومعنوية. وتنعكس هذه الأعباء ضغوطاً تتحول لعنف داخل الأسرة. فتستخدم السلطات الطائفية الأعباء التي تضعها على كاهل الرجل كمبررات لهذا العنف. وإن أعفت هذه المحاكم الرجل من عقاب قانوني، سيظلّ معاقباً، إذ سيعجز عن عيش حياة أسرية صحيّة وهانئة في ظل هذه الضغوط وتأثيرها عليه.
أمّا بحكم القانون الموحّد، فستصبح الزوجة شريكة في تحمّل جميع الأعباء. شريكة في اتخاذ القرارات عند مواجهة أي مشكلة، وما ينجم عنها من مسؤوليات. شريكة في الإنفاق على أسرتها. ما سيزيل عن كاهل الرجل عبئاً مالياَ ومعنوياً. بدوره سيشارك الرّجل بالواجبات المنزلية وبتربية أبنائه. ما يعزز الترابط الأسري، ويزيد من محبة واحترام الأطفال لوالدهم.
لربما ليست الحياة الأسرية السعيدة غاية المحاكم الطائفية. فأولويتها الاستمرار بالتحكم بكل تفاصيل العلاقة بين أفراد الأسرة والمجتمع، سعياً للحفاظ على نفوذها السلطوي والمادي. فضلاً عن خشية السلطات الطائفية والسياسية من أن تنعكس هذه التبدلات على صعيد الأسرة تغيّراً على صعيد المجتمع. إذ ستساهم في تعزيز حضور المرأة في الفضاءات العامة، ومشاركتها في الحياة السياسية وفي مراكز القرار في الدولة. وهذا ما تخشاه.
منظمة "كفى"
بقلم الصحافية "مريم سيف الدين"