شراكة الطوائف والدولة المستحيلة
يدعو الدكتور نزار يونس في كتابه "الميثاق أو الانفكاك" إلى العودة إلى ميثاق الطائف الذي تم تعطيله وتهميشه ويعتبر أن الميثاق هو مشروع لبناء الدولة اللاطائفية الجامعة، وقد تضمن خطة طريق لقيامها حيث دعا إلى إلغاء الطائفية السياسية وفصل الدين عن الدولة وبالتالي التخلي عن النظام السياسي الطائفي الذي أحتضن منظومة الفساد والمحاصصة
ويعتبر الدكتور يونس أن لا قيام لدولة وطنية ديمقراطية ما لم يتم الالتزام بالمبادئ التي شرّعتها وثيقة الوفاق الوطني.
من حيث المبدأ، كان يمكن المضي خطوات باتجاه إقامة هكذا دولة لو كان هناك نوايا سليمة لدى القوى السياسية الحاكمة لتطبيق الميثاق وإلغاء الطائفية السياسية وبناء الدولة الجامعة لكل مواطنيها، دولة المواطنة، دولة القانون والمؤسسات، دولة العدالة الاجتماعية ودولة المساواة وحقوق الإنسان.
إلا أنه، وكما أصبح معلوما، لم يكن لدى جميع القوى السياسية التي تعاقبت على حكمنا منذ اتفاق الطائف حتى يومنا هذا، لم يكن لديها النيّة في تطبيقه. فمن القضايا التي كان يفترض العمل عليها مثلا مراجعة المواد الدستورية التي تتناقض مع المبادئ التي نص عليها دستور ما بعد الطائف والتي تم تضمينها في مقدمته، أي مبادئ العدالة والمساواة والتزام لبنان بمواثيق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان وغيرها.
فالقوى السياسية الطائفية التي حكمت لبنان منذ اتفاق الطائف، قد تجاهلت وعن عمد، مراجعة هذه التناقضات، ومن أهمها الإبقاء على حقوق المؤسسات الطائفية بأن حفظت لها صلاحية التحكّم بكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية لأتباعها الذين لا خيار أمامهم للعبور إلى الدولة إلا من خلال الانتماء إلى الطوائف ال 18 المعترف بها في لبنان وفق المادة 9 من الدستور والتي نصت:
المادة 9- حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الاجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك اخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية.
إن الإبقاء على هذه المادة يقوّض الأساس الذي قامت عليه وثيقة الطائف، فهي تكرّس مبدأ تدخّل السلطات الدينية في التشريع في كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية للمواطنين، في الوقت الذي تخلّى فيه مجلس النواب عن واجباته التشريعية في هذا المجال، فاسحا المجال أمام السلطات الدينية لفرض قوانينها الخاصة الضاربة للعديد من المبادئ الأساسية الني تضمنتها وثيقة الطائف، الضاربة لشرعة حقوق الإنسان والمانعة لقيام دولة المساواة والعدالة الاجتماعية عبر الإبقاء على 15 نظاما للأحوال الشخصية، وعليه، يبقى المواطنون موزّعين على جزر مذهبية يرتبطون مباشرة بالمذاهب التي ينتمون إليه بدل انتمائهم إلى الدولة الجامعة.
كيف يمكننا أن نجمع ما بين فصل الدين عن الدولة ومبدأ الديمقراطية البرلمانية من جهة ، وبين تنازل البرلمان عن حقه في التشريع لمصلحة الطوائف لا بل المذاهب المختلفة المعترف بها في لبنان؟ فإذا كان الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية، فأي سلطة للشعب على المؤسسات الدينية الخارجة عن إطار المؤسسات الدستورية؟ فإذا نظرنا إلى هذا النظام التشريعي الطائفي المسقط على المواطنين والمواطنات والذي أعطي صفة القدسية غير القابلة للمراجعة، هل يمكن أن نتحدث هنا عن نظام ديمقراطي؟
نحن لدينا انفصال عامودي ما بين نظامين تشريعيين:
- نظام تشريعي مدني يكرّس المساواة بين المواطنين والمواطنات وفقا لأحكام الدستور – وهذا ما تزال تشوبه بعض المواد التمييزية، وهو نظام مشترك يطبق بالتساوي على جميع اللبنانيين واللبنانيات
- نظام تشريعي طائفي يضم 15 نظام أحوال شخصية وهو نظام يفرّق اللبنانيين ويميّز بينهم في الحقوق والواجبات وفقا لانتماءاتهم المذهبية. أما الأحكام الصادرة عن المحاكم المذهبية، فهي غير خاضعة إلى رقابة الدولة اللبنانية إلا من حيث احترامها لأصول الإجراءات الشكلية، فيما قضاة المحاكم الطائفية يعيّنون من قبل المذاهب المختلفة دون اعتماد حد أدنى من المعايير العلمية والقانونية
وإذا ما دخلنا في تفاصيل القوانين المعتمدة لدى هذه الطوائف، نجد أنها جميعا ودون استثناء تخالف المبادئ الأساسية التي نصّت عليها مقدمة الدستور أي، احترام الحريات العامة والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايزأو تفضيل كما اوالتزام لبنان بالشرعة العالمية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية
فعن اي التزام بمواثيق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان نتكلم عندما نشرّع قوانين تنتهك الحقوق الإنسانية للمرأة؟ وعن أي مساواة في الحقوق والواجبات نتكلم عندما نشرّع لممارسات تمييزية بين النساء أنفسهن وبين النساء والرجال؟
مثلا، وبالرغم من اختلاف هذه القوانين بين مذهب وآخر، فهي تتشارك جميعا في التمييز ضد النساء حيث أنها:
- تكرّس سلطة الرجال على النساء وتضع النساء في موقع التابع وتطلب منهن الطاعة، وما زال هناك أحكام بالنشوز تصدر بحق النساء إذا ما خرجن عن طاعة أزواجهن، فيحرمن من بعض حقوقهن.
أما حق الولاية على الأولاد، فهو حق مطلق للأب، ويطلق عليه صفة "الولي الجبري" وينتقل هذا الحق إلى الذكور من جهة الأب في حال وفاة هذا الأخير.
من أوجه التمييز أيضا، سن الحضانة التي يسمح للأم الاحتفاظ بحضانة أطفالها في حال الانفصال أو الطلاٌق، فبالرغم من أن هذا السن تم تعديله لدى بعض المذاهب، لا زالت مذاهب أخرى تحرم الأم من حضانة ابنها الذكر عند بلوغه عمر السنتين اي عند انتهائه من سن الرضاعة
وفي قوانين الأحوال الشخصية العديد من الأمثلة عن أوجه التمييز اللاحق بالنساء، مثل موضوع الشروط غير المتساوية في طلب الطلاق، الإجحاف اللاحق بهن في موضوع النفقة وفي عدم السماح لهن بالاحتفاظ في المنزل الزوجي عند الانفصال أو الطلاق حتى لو كن حاضنات لأطفالهن. وتبقى المشكلة الأكبر في سن الزواج المسموح به للفتيات، فجميع الملل سمحت بتزويج الفتيات قبل بلوغ سن الرشد. كما وأن حرمان المرأة اللبنانية من إعطاء جنسيتها لزوجها وأولادها، فهو أمر مرتبط أيضا بالنظام الطائفي الذي يحكمنا.
لذا، يمكننا القول أن هناك منظومتين تتحكمان بالشعب اللبناني، منظومة مدنية تجتمع ضمن قبة البرلمان ولكنها موزّعة على أساس طائفي، ومنظومات أخرى دينية يتوزّع اللبنانيون عليها بشكل عامودي وكل منها يتحكّم بمصير أتباعه منذ الولادة وحتى الممات.
وهنا لا بد أن نطرح السؤال التالي: هل يمكننا أن نطالب بإرساء دولة القانون والمؤسسات دون المطالبة بإلغاء جميع هذه المحاكم الطائفية الخارجة عن سلطة الدولة؟ هل يمكن لدولة مدنية أن تقوم في ظل وجود منظومة طائفية قابضة على المواطنين فارضة عليهم الانتماء إليها أولا قبل انتمائهم للدولة ؟
ربما كان من مصلحة القوى الساسية التي حكمتنا منذ اتفاق الطائف أن تغيّب هذا الجانب الذي ينتهك من سيادة الدولة الكاملة من ناحية، ويغض الطرف عن كل الانتهاكات للحقوق الإنسانية للنساء من ناحية ثانية.
أليس من مصلحة هذه القوى السياسية أن يبقى المواطنون موزّعين على ثمانية عشرمذهب ومقيّدين في قوالب طوائفهم، كي تتمكن من المحافظة على تمثيلها لطوائفها، فتستخدم سياسة التحريض الطائفي والتخويف من الآخر كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وتستغل مواقعها في الدولة لإرساء العلاقة الزبائنية مع أتباع الطوائف فتبقيهم خاضعين لسيطرتها. ألم نشهد كيف يهرع بعض الطامعين لتولّي مناصب الشأن العام لأخذ بركة المرجع الديني التابعين له للوصول إلى المناصب المبتغاة؟ ألم نشهد كيف غطّت المنظومة الدينية على الفساد الذي اقترفته ولا تزال الطبقة السياسية ، فوضعت خطوطا حمراء لمصلحة هذا الفاسد أو ذاك من أتباعها؟
وبالعودة إلى المادة 9 من الدستور والتي ضمنت، بالإضافة إلى احترام نظام الأحوال الشخصية للملل، فهي قد ضمنت لهم أيضا احترام المصالح الدينية، وهكذا شهدنا في العقود الماضية تطور المصالح التجارية لطوائف عدة، فأنشئت المؤسسات الدينية الصحية والمدارس والجامعات وغيرها، كلها على حساب المؤسسات التابعة للدولة، مما ساهم في تعزيز شرذمة المواطنين وتعزيز انتماءاتهم الطائفية بدلا من تعزيزانتمائهم لدولة الرعاية الاجتماعية التي من شأنها أن تعزّز مفهوم المواطنة لدى اللبنانيين واللبنانيات..
نقول كل ذلك لنؤكد أنه عندما نتحدث اليوم عن ضرورة إلغاء الطائفية السياسية وفصل الدين عن الدولة، فإن إلغاءها مرتبط حكمًا بإقرار قانون موحّد للأحوال الشخصية، قانون يشرّعه مجلس النواب اللبناني ويطبّقه على جميع المقيمين على الأراضي اللبنانية. إنها منظومة متكاملة، فلا يمكن إلغاء الطائفية السياسية من دون إلغاء الطائفية المجتمعية الممأسسة في قوانين الأحوال الشخصية.
إن كل ذلك لن يتأمن إلا في إطار دولة ديمقراطية علمانية تؤمن فصل الدين عن الدولة بشكل تام وفي كل أوجه الحياة، دولة تحترم المعتقدات الدينية للأفراد وحقهم في ممارسة طقوسهم الدينية، ولكنها دولة جامعة لكل اللبنانيين ضمن نظام مدني واحد يكرّس مفهوم المواطنة المتساوية بين الجميع، ويرسي أسس العدالة والمساواة بين جميع المواطنين والمواطنات، دولة تكون مرجعيتها مواثيق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، كما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني.
كلمة زويا جريديني في الندوة حول كتاب الميثاق أو الانفكاك ... الطائف ذلك المجهول، للدكتور نزار يونس
الحركة الثقافية - انطلياس ، الخميس 23 حزيران 2022