رحلة الزواج المدني في لبنان
عبّرت وزيرة الداخلية ريا الحسن مؤخراً عن موقفها الإيجابي من الزواج المدني ونيّتها السعي لفتح حوار جدّي مع المرجعيات الدينية وغيرها حتى يتمّ الإعتراف به في لبنان. وهي بذلك أعادت الى الواجهة مطلباً تاريخياً متعلقاً بهذا الموضوع. فالمبادرات التي سعت الى إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية تتالت منذ العام 1957 عندما اقترح ريمون إده هذا الطرح لأول مرة في مجلس النواب، ولحقه إقتراحات عديدة لمشاريع قواتين متعلّقة بالأحوال الشخصية، منها مشروع القانون الذي أعدّه فريق رئيس الجمهورية حينها إلياس الهراوي في العام 1998 وناقشته الحكومة ونال تأييد 20 وزيراً، لكنه لم يُحل الى مجلس النواب.
وفي كل مرّة يُطرح فيها هذا الموضوع، يواجه بهجوم ومواقف مندّدة ورافضة له، والحجج تكون في كل مرّة هي ذاتها: التوقيت غير مناسب ومخالفة الدين والدستور. وفي كل مرّة يُطوى الملّف الى حين ويعود الإحباط مخيماً على الآلاف من المواطنين والناشطين الذين يطالبون بقانون عام واحد يساوي بين المرأة والرجل وبين كل اللبنانيين في الحقوق والواجبات.
الاختراق الهام الذي تحقق في هذا المجال كان عام 2011 عندما أصدر وزير الداخلية آنذاك زياد بارود تعميما يقضي بشطب المذهب في السجل وفقاً لما ورد في الرأي الصادر عن هيئة التشريع والاستشارات رقم 276\2007 واستكمالاً له، والذي يؤكد على حق كل مواطن بعدم التصريح عن القيد الطائفي في سجلات الأحوال الشخصية أو شطب هذا القيد.
هذا التعميم هو الذي أتاح في العام 2013 تنظيم وتسجيل عقود زواج مدنية لأول مرّة في لبنان.
"كانت المرة الأولى التي يتمّ فيها تطبيق الدستور اللبناني فيما يتعلّق بحقوق الأفراد من دون المسّ بحقوق الطوائف"، بحسب جوزيف بشارة، الكاتب العدل الذي عقد أول الزواجات المدنية في لبنان.
مروان شربل: قصة نجاح أول زواج مدني في لبنان
يسجّل للوزير مروان شربل افتتاحه فجوة فعلية في النظام اللبناني، السياسي والاجتماعي والروحي، من خلال توقيعه 13 وثيقة زواج مدني. وهو أصبح بذلك أول وزير لبناني يطبّق القانون ويعطي اللبنانيين الحق في الزواج المدني.
يقول الوزير شربل في مقابلة أجريناها معه إنه فخور بما أنجزه، فـ“زوّجت 26 مواطناً ومواطنة بشكل طبيعي احتكاماً إلى النصوص القانونية“. لم يربط الوزير قراره بكون الحكومة باتت حينها حكومة تصريف أعمال، ”فلم أعمل على تهريب القرار بل كان نابعاً عن قناعة".
يشير شربل إلى أنّ ”الزواج المدني حق منصوص عليه في القوانين اللبنانية منذ الانتداب وتشكيل أولى أسس وثوابت الدولة اللبنانية، وهو قرار لم تدحضه أي مادة قانونية في الدستور أو القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية“. وسأل شربل: لماذا يتم تثبيت الزواج المدني للبنانيين المتزوجين مدنياً في الخارج؟ فما الفرق إذا أتمّوا زواجهم على الأراضي اللبنانية؟ في بعض حالات الطلاق، يلجأ المتزوّجون في الخارج إلى القوانين الخارجية وثم يتم تثبيتها وتطبيقها في لبنان، فلماذا عندها يعود القضاء ويحكم باسم الشعب اللبناني ويوافق على قرار قضائي صادر من سلطات قضائية خارجية؟ لماذا لا يمكن أن نساعد اللبنانيين في تجنيبهم تسديد تكاليف الزواج المدني في الخارج؟
بعد إتمام أول وثيقة زواج مدني في بيروت، واجه شربل حملة من رجال الدين. ”كلهم من دون استثناء“، بحسب ما يقول، مضيفاً أنّ ”القوى السياسية والأحزاب لم تواجهني لكن طبعاً كل سياسي مرتبط بطائفته يرفض قراري“. فهؤلاء السياسيون ورجال الدين ”يريدون المحافظة على منظومتهم الاجتماعية والتحّكم بالناس“، يقول شربل. ويضيف أنّه ”في النهاية ثمة فوائد للطلاق والزواج لرجال الدين وللطوائف من مردود مالي وسلطوي وغيرهما“.
يبدو مروان شربل فخوراً بما فعل. لكن واقع الأمور يشير إلى أنّ هؤلاء المعارضين تمكّنوا من وقف عملية توسيع فجوة الزواج المدني في جدار النظام والمنظومة.
الوزير نهاد المشنوق الذي خلف شربل، لم يجرؤ على إبقاء باب الزواجات المدنية على الأراضي اللبنانية مفتوحاً أمام المواطنين، فأوصده جيّداً وخنق أحلامهم "بقبضة من حديد". لذا نجد ما يقارب الـ 43 عقداً تكدّس في وزارة الداخلية في انتظار تثبيتها.
وبعدما أعادت ريا الحسن فتح هذا الموضوع، نظمّت مجموعة من الناشطين والناشطات إعتصاماً أمام وزارة الداخلية في 23 شباط من العام الحالي، مطالبين وزيرة الداخلية بالإفراج عن وثائق الزواج المدني التي ما زالت في أدراج الوزارة منذ العام 2013.
قصص بعض الزواجات المدنية
خلود ونضال
خلود ونضال، وثالثهما غدي. ثنائي، ثم ثلاثي، ضجّ به الإعلام اللبناني في العام 2013، وملأت سيرته المجالس السياسية والروحية: أول زواج مدني موقّع على الأراضي اللبنانية.
يقول الزوجان إنّ ”الضغوط بدأت على الأهل فور تناول الإعلام للملف“. كانت المعاملات الإدارية قد انطلقت من الهرمل، فزحلة، وصولاً إلى وزارة الداخلية. وفور الحديث عن قضيتهما، وإعلان رئيس الجمهورية حينها، ميشال سليمان، عن ضرورة قوننة الزواج المدني في لبنان، بدأت الحملة.
لم يرد نضال وخلود الإشارة إلى تلك الحملات والضغوط التي تعرّضا لها في تلك المرحلة. يقول نضال ”أردنا إنهاء القضية وأن نتزوج مدنياً“، فيما تقول خلود إنّه لم يكن من الصائب تخويف الناس من هذه الخطوة.
فبعد إعلان الخبر، وقع الهجوم على منزل أهل خلود في بلدة الفاكهة (البقاع) وتمّ تكسيره. لم يُصب أحد بأذى ”لكون أهلي يبيتون في بيروت خلال الأسبوع، ويزورون البلدة في العطلة“. وكذلك بدأت الضغوط من عائلة نضال. إلا أنّ ”والدي كان حاسماً“، بحسب ما يقول الزوج.
وفي الإطار العائلي أيضاً، قرّر بعض من آل سكرية أنّ فعل ابنة العائلة لا يُحتمل. فأعلنوا في بيان ”تبرؤهم مني باسم الالتزام بالدين والعائلة“، تقول خلود، لتشير أيضاً إلى أنّ ”مجموعة أخرى قرّرت دعمي، من العائلة الضيّقة والأوسع. هم مؤمنون دينياً، لكنّهم مقتنعون أن لي الحرية في الاختيار".
وبعدها توالت التهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي. تذكر خلود جيداً رسالة وصلتها على فايسبوك، مفادها: ”إنكم تؤذون الدين، أنتم مشركون. ولدكم لن يولد، بل سيتحوّل إلى دم“.
كل ذلك التخويف الاجتماعي كان في ميل، وما جاء على لسان رجال الدين في ميل آخر. توالت مواقف السلطات الروحية ليصبح التخويف ترهيباً فعلياً. فكانت فتوى الردّة من مفتي الجمهورية، محمد رشيد قباني، الذي قال: ”إنّ كل من يوافق من المسؤولين المسلمين في السلطة التشريعية والتنفيذية، على تشريع وتقنين الزواج المدني ولو اختياراً، هو مرتدّ وخارج عن دين الإسلام، ولا يغسّل، ولا يكفّن، ولا يصلّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويحمل أوزار كل الذين يدخلون في هذه العلاقة غير المشروعة من أبناء وبنات المسلمين إلى يوم القيامة". وبعد قباني صدر بيان عن المجلس الإسلامي الأعلى وهيئة العملاء المسلمين، ومواقف كنسية مختلفة (أبرزها لرئيس اساقفة بيروت المطران بولس مطر)، تشجب هذا المشروع وتضعه في مصاف الكفر والإلحاد والمسّ بالشرع والدين ومؤسساته بهدف هدمها وتخريب المجتمع.
استضعاف خلود، المرأة
كانت التهديدات تشمل نضال وخلود، لكنّ الأخيرة، كونها إمرأة وتُعتبر الحلقة الأضعف، تعرّضت لما هو أسوأ من ذلك. فإضافة إلى بيان التبرؤ منها وتكسير منزل أهلها، فإنّ خلود عاشت أوقات عصيبة في حياتها المهنية. هي مدرسة للغة الانكليزية، متعاقدة مع مدرستين رسميّتين. كواقع أغلب الإدارات الرسمية، تخضع المدارس للمحوسبية السياسية والطائفية والمذهبية. ففي إحدى هذه المدارس القريبة من منطقة صبرا، قال الناظر العام لخلود بشكل صريح أنه لا يرغب بتواجدها كمعلّمة لتلامذته. كما تعرّضت لـ“تلطيش“ من قبل بعض زميلاتها.
وفي مدرسة أخرى في منطقة عرمون، قالت المديرة ما حرفيّته: ”لا يهمّنا أبداً أن تتعلّم بناتنا ما فعلته، نريد أن يحافظن على العادات والتقاليد “.
تقول خلود إنها طُردت من المدرستين، وتضيف: ”فخوران بما قمنا به، لكن الكلفة كانت كبيرة“.
كل ذلك دفع الزوجين إلى التفكير في مستقبل ابنهما. فقرّرا السفر إلى الخارج بعد أنّ أتمّا العملية.
شذا وطوني
شذا وطوني، ثنائي آخر تزوج مدنياً في لبنان، كانا مدركين للصعوبات التي قد تواجههما لكنهما قرّرا خوض التجربة. تأخر ملّفهما كثيراً لكنهما استطاعا أخيراً وبعد "ضغوطات" مارسها الوزير شربل قبل نهاية ولايته، تسجيل زواجهما.
فاطمة وجان
فاطمة وجان كانا الثنائي الأخير الذي سُجّل زواجهما، إذ رفض وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق تسجيل أي زواج مدني لبناني آخر، فـ "قبرص مش بعيدة".
إنصاف وحسام
إنصاف وحسام لم يحالفهما الحظ في تسجيل زواجهما المدني ولم يحالفهما الحظ في شخصية وأهواء الوزير المشنوق. انتظرا توقيع عقد زواجهما لأشهر. عندما علمت إنصاف أنها حامل، لجأ الثنائي إلى محام وقدّما شكوى أمام قاضي الأمور المستعجلة في بعبدا لوجود عنصر طارئ وخطر محدق بهما وبطفلهما المنتظر، إلا أن القاضي أصدر قراراً يقضي بأنه غير مختص للنظر بدعاوى مماثلة، وأن عليهم اللجوء إلى محكمة الأساس.
وبعد ضغوطات اجتماعية وسياسية ودينية تعرّض لها الزوجان، خصوصاً أن عقد زواجهما لم يصبح "رسمياً" في الدولة اللبنانية، اضطرا الى الهجرة من لبنان لتأسيس عائلة خارجه، خارج طوائفه وتهديدات المؤتمنين عليها.
قوانين الطوائف لا تشكّل القانون العام
في تعليق لمنظمة "كفى" حول تصريح الوزيرة ريا الحسن وردود الفعل عليه، ذكّرت بأن "المادة التاسعة من الدستور وإن كانت تُجيز تعدّد الأنظمة الطائفية، إلا أنها لا تُجيز استئثار الطوائف بنطاق الأحوال الشخصية ولا تُجيز الفراغ في القانون المدني العام كما هو حاصل. كما أن الدستور اللبناني لم يتبنّ دينا للدولة وبالتالي إن أياً من قوانين الطوائف لا يمكنها أن تشكّل القانون العام. ولذلك وتطبيقاً للمادة التاسعة، على الدولة واجب تشريع قانون عام موحّد للأحوال الشخصية".
"كنت بفضّل إتزوج حسب قانون لبناني"، علّق طوني الذي تزوّج هو وشذا (الفيديو أعلاه) وفق القانون الفرنسي لغياب قانون مدني لبناني للأحوال الشخصية.
هذا القانون ينتظره العديد من المواطنين والمواطنات في لبنان، وهذا أبسط حقوقهم على الدولة.