الأبوة الإيجابية: تجربة رانيا وخالد في مخيّم الرشيدية
يثمّن خالد النصر ورانيا السيّد علاقتهما، وتحديداً العنصر الأساسي الذي تقوم عليه، أي التشارك في كلّ جوانب حياتهما. منذ ما قبل زواجهما، وحين بدءا العمل على تجهيز المنزل، قاما بكلّ ذلك معاً بعدما انتقل خالد من مخيّم عين الحلوة في صيدا إلى مخيم الرشيدية في صور حيث ولدت وعاشت رانيا طوال حياتها. «جمعنا أموالنا، ولم يكن هناك تفرقة في أيّ من المسؤوليّات» أخبرتنا رانيا.
قبل حوالي شهر من زيارتنا لهما في منزلهما في مخيّم الرشيديّة، انضمّ فرد جديد إلى حياة رانيا وخالد هو ابنهما وليد. حين تريد الحديث عن علاقتهما، تبدأ رانيا باستعادة فترتي الحمل والولادة. ورغم كلّ الصعوبات التي واجهتها خلالهما، لم تشعر بالحاجة إلى أكثر من الدعم الذي تلقّته من خالد الذي ظلّ إلى جانبها وقتها: «فترة الحمل كانت صعبة خصوصاً لناحية تغيّر المزاج، الأمر نفسه بالنسبة إلى الولادة القيصرية» التي حملت معها مشقّات في النهوض والحركة، وبالطبع بعض التغيّرات النفسية. «تفهّم زوجي هذه التقلّبات ودعمني نفسياً. حتى أنه تولّى مساعدتي في كلّ أموري الشخصية بعد الولادة ولم أحتج إلى أحد من أفراد عائلتي». وفي الشهرين الأولين من حياة مولودهما، وليست الأم وحدها من يعتني بالمولود، بل يتناوب على رعايته الزوجان معاً. يسهر خالد مع الطفل أحياناً، ويحضّر له قنينة الحليب لكي تتمكّن رانيا من النوم والراحة، قبل أن تعود لتسهر معه مجدداً.
تعمل رانيا في وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، ويعمل خالد كتاجر في الحسبة، كما تجمعهما هواية التصوير الفوتوغرافي. لدى زيارتنا لهما كانت رانيا قد عادت لتوّها إلى الوظيفة بعد شهر من الإجازة. في هذه الفترة الضاغطة، انتقلت والدة خالد للعيش معهما كي تعينهما على رعاية المولود. حيث تبقى معه إلى حين عودة خالد من العمل، ليهتمّ بالطفل ما إن يصل، ويقوم ببعض المهمّات المنزلية حتى عودة زوجته إلى البيت. هكذا يخفّفان عن بعضهما متاعب العمل خارج البيت في ظلّ الأزمة الإقتصاديّة في لبنان.
لا يكترث خالد لانتقادات الناس أو تعليقاتهم التي تتبنّى الأدوار النمطيّة بين الرجل والمرأة. يتجاوزها بيسر، خصوصاً أنه مقتنع كلّ الاقتناع بما يفعله: «لا أتأثر بمعايير مجتمع لا يعترف بأهميّة التشارك بين الرجل والمرأة. بكل الحالات، لا نقف عند التعليقات السلبية على الإطلاق. نفتخر أنا وزوجتي بهذه العلاقة أمام الجميع».
تتجاهل رانيا تعليقات المحيط السلبيّة أيضاً، يعنيها أوّلاً التوافق بينها وبين زوجها على قرارات حياتهما وتفاصيلها: «لا يهمنا الخارج على الإطلاق. إذا قام الرجل بمساعدة زوجته يقولون إنها تتحكّم به، هذا ما يعتقده الناس. هل عليه أن يكون مسيطراً أو أن يعنّف زوجته لكي يعتبر رجلاً؟». في هذا السياق، أشارت إلى العبارات التي تسمعها حتى من صديقاتها أحياناً، بعضهن ممّن ينصحنها بعدم السماح لزوجها بالقيام بالمهمّات المنزليّة أمام الناس مثلاً «لألا تقلّ هيبته أمام الآخرين». تستغرب رانيا هذه التعليقات، خصوصاً حين تأتي على ألسنة نساء قد يرغبن ضمنياً بعلاقة مماثلة مع أزواجهن.
لم تكتسب رانيا هذه القناعة بشكل مباشر من تربيتها في عائلتها، فقد كبرت في بيت تقوم فيه الفتيات بكل العمل المنزلي، فيما كان يمتنع الشباب عن أيّة مشاركة. غير أن تلك التفرقة في الأدوار، والتي تنسحب على الكثير من نواحي التربية، جعلتها تعي أكثر أهمية المساواة في كافّة جوانب حياتها الزوجيّة كما استذكرت: «أبي كان يعمل في الزراعة، وكانت أمي تساعده في العمل، وحين تعود إلى المنزل كانت تنتظرها مهمّات أخرى، تشتغل في البيت وتنظّفه وتعجن وتطبخ وتغسل من دون أن يساعدها والدي في ذلك. أنا نموذج عنها في الصلابة، لكن لا أريد أن أتعب باكراً مثلها، فقد رحلت أمي في الأربعينات من عمرها بسبب تراكم تعب العمل». حاربت رانيا وتمرّدت على الكثير من التنميطات والأعراف التي تربّت عليها منذ أن كانت طفلة: «كل ذلك ما قنعني يوماً». لقد تجرّأت على إعلان مشاعر حبّها لخالد أمام والدها، لم تتردّد للحظة واحدة في ذلك طالما أنهما متّفقان وطالما أن مشاعرها حقيقية، وذلك خلافاً لما هو متوقّع أن تجري عليه أمور الزواج في عائلتها.
في دائرة المعارف والمحيط، تُعتبر شخصيّة رانيا قويّة. هي لا تنكر ذلك، وتقرّ بضرورة أن تكون للمرأة شخصيّة كهذه، أي أن تشارك في القرارات، وأن يكون لها رأياً مستقلّاً: «أنا قوية، أعرف هذا، لو لم أكن كذلك لما استطعت أن أتحمل التنمر في بعض مراحل حياتي، ولا تمكّنت من مواجهة الكثير من المواقف في المجتمع، منها العقبات التي تصطدم بها الفتيات تحديداً. كنت سأعجز بالطبع عن اتخاذ العديد من الخطوات في حياتي».
مضى على زواج رانيا وخالد، سنة واحدة، ولا يقتصر الأمر بينهما على التعاون في واجبات المنزل، بل يتمثّل في الدعم المعنوي في تجاربهما وفي شؤون العمل، وفي الاحترام المتبادل، وعدم التجريح في الكلام مهما شعر أحدهما بالغضب. هكذا يتناقشان في أمور المنزل، ويتخذان القرارات معاً، من دون أن يقتصر الأمر على قرار الرجل وحده. أمّن هذا التوافق راحة نفسية لرانيا وخفّف عنها ضغوطات كثيرة، كما تسرّ لنا: «لقد تعبت كثيراً في حياتي، لكني وجدت الراحة والرعاية والثقة والأمان معه».
لا يعتبر خالد أن المهمّات بينهما تقوم على التقسيم، بل على التشارك يداً بيد. يفضّل استخدام هذا التوصيف لأنه يعتبر أن واجبه في المنزل يتساوى مع واجب رانيا. لقد وضعا جهودهما معاً لبناء المنزل، رتّبا وخطّطا معاً لتفاصيل حياتهما، كما أنهما يتعاونان لإعالة عائلتهما الصغيرة ماديّاً. وبالإضافة إلى عمله في الحسبة، يعمل خالد في التصوير الفوتوغرافي، الهواية التي تحوّلت إلى وسيلة تعبير عن واقع المخيّمات، كما حين صور العمال والاحتجاجات في المخيّم بوجه بعض قرارات وزارة العمل في لبنان، بالإضافة إلى مشاركته في العمل الاجتماعي من خلال مساعدة اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا في تسوية أوراقهم في لبنان.
ثمّة أسباب كثيرة، قد تجعل الرجل ينفرد بقرارات المنزل، خصوصاً في مجتمع يمنحه كلّ الصلاحيات للقيام بذلك، بينما يبرّر له في كثير من الأحيان إلقاء كلّ الأعباء المنزلية عل عاتق الزوجة. بالنسبة إلى حجج الوقت التي يلجأ إليها الرجال في العادة من أجل التهرّب من مشاركة زوجاتهم في العمل المنزلي مثلاً، أو البقاء مع أطفالهم والعناية بهم، يؤكّد خالد أن من يريد أن يجد الوقت فسيجده حتماً. يعرف ذلك من تجربته الخاصّة التي استطاع أن يوفّق فيها بين عمله خارج البيت وداخله. إذا عاد من العمل ولاحظ أن ثمّة مهمّات منزليّة، ينجزها بنفسه ولا ينتظر رانيا لكي تقوم بها. والآن بعد ولادة ابنهما وليد، كان خالد من اقترح عليها أن يتعلّم تحضير زجاجة الحليب له، حيث كانت تلك الخطوة الأولى للعناية به ومتابعة تربيته في المستقبل. يعي خالد أهميّة أن يكون الأب قريباً من أولاده، وأن ينخرط في تربيتهم وفق ما يخبرنا: «حين يكبر ابني ويرى أنني أعمل في البيت، سيتعلّم وحده أن يطبّق كلّ ما يراه. أحب أن يعمل الولد في البيت مثل الفتاة تماماً، وأن يكون متساوياً معها في كلّ شيء». واستطاع الزوجان أن يوفّقا بين العمل ومشقّاته، وبين المهمّات المنزليّة، متجاوزين كلّ العقبات الماديّة والمعنويّة التي تحول دون ذلك. وفي بيتهما الذي شيّداه بجهدهما المشترك، يعتنيان حالياً بطفلهما وليد، ويحرصان على نقل كلّ المفاهيم التشاركيّة إليه حين يكبر أكان لناحية المشاركة في البيت، أم لناحية تعلّم احترام خيارات المرأة.
أجريت هذه المقابلة ضمن برنامج الرجال والنساء من أجل المساواة بين الجنسين (2019 –2021) الممول من الوكالة السويدية للتنمية الدولية (SIDA). وضمن هذا المشروع، عملت منظمة "كفى" بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة في لبنان على دعم منظمات المجتمع المحلي في تصميم وتنفيذ وتطبيق حلول مجتمعية، مصممة لسياقات محلية، من أجل تحدي المعايير الاجتماعية وتعزيز المساواة بين الجنسين.