الأبوة الإيجابية: عمر وهبة من طرابلس
خلال زيارتنا إلى منزل العائلة في جبل البداوي في طرابلس نهار الأحد، كان عمر سعد يجهّز نفسه لغسل السجاد وتنظيفه استعداداً لقدوم الشتاء. في نهار عطلتهما، يمضي عمر وزوجته هبة الضنّاوي نهارهما في المنزل معاً برفقة طفليهما جاد وليا، وينهيان بعضاً من المهمّات المتراكمة، خصوصاً أنهما يعملان طوال أيام الأسبوع. يذكر عمر أن هذه واحدة من المهمّات التي يقوم بها في منزله، إذ يقول "أشارك بالجلي والنشر والمسح والتنظيف"، ويضيف أن المجتمع في العادة لا يهيّئ الرجال أو يدعمهم للقيام بهذه الأعمال، خصوصاً في التربية التي تقوم على حصر دور المرأة بالواجبات المنزليّة، وتهميشها في الأدوار الحياتية الأخرى.
في المقابل، يعزو عمر امتناع الرجال عن مساعدة زوجاتهم في بعض الأحيان إلى الخوف من المجتمع ومن أحكامه وأعرافه. وإن كان يشير هنا إلى المساعدة المنزليّة، إلا أنه يقصد العلاقات المتساوية في اتخاذ القرارات، وفي أساليب تربية الأولاد ورعايتهم وغيرها من جوانب إدارة البيت. فمثلما تواجه المرأة التنميط الاجتماعي الذي يقلل من دورها ويهمّش حضورها، يواجه الرجل التنميط الذي يفرض عليه التمسّك بالسلطة في البيت. إذ أن الرجال يتفادون مساعدة زوجاتهم أحياناً، خصوصاً أمام الآخرين، هرباً من سماع التعليقات التي تنتقص من قيمتهم إذا شاركوا في الأعمال المنزلية. ويؤكّد عمر أن التنميط ليس العامل الوحيد، طبعاً، فهناك عدد كبير من الأزواج الذين يقتنعون بضرورة السيطرة والتفرّد في القرارات وحدهم. وانطلاقاً من تجربته، فإن ما يعدّ عاملاً أساسياً في نجاح العلاقات التشاركية، هو قدرة الزوجين على المواجهة، من دون الاهتمام بما يقال من حولهما، ومن دون أن يسعى الزوج إلى فرض نفسه عبر التسلّط على الزوجة وتهميش دورها.
يطبّق عمر قناعاته عملياً مع عائلته، رغم تعرضه للتنمّر وسماع بعض التعليقات الساخرة، كلقب "أبو بدر" في إشارة إلى شخصيّة الرجل الذي يخاف من زوجته في مسلسل "باب الحارة". سمعها مثلاً، وهو يمسح الدرج أو الزجاج في الخارج وأمام الجيران، لكنه لم يدعها تصرفه عن هذه الأعمال، بل صار يتقصّد القيام بها في العلن وأمام الآخرين.
يعمل عمر في معمل للحلويات مع والده في طرابلس. غير أن تعب الساعات الطويلة "يختفي كلياّ فور وصولي إلى المنزل"، بحسب تعبيره، "أصل وأبدأ اللعب مع طفلي ليا وجاد، أحمل ليا وأدور بها في البيت كلّه". لدى هبة وظيفة أيضاً كمدرّسة لقسم الروضات في إحدى المدارس، كما تقدّم الدروس الخصوصيّة للطلاب بعد الظهر. هبة التي التحقت في السابق بجمعيّة لمناهضة العنف ضد المرأة في طرابلس، صارت تعي أكثر أهمية عمل المرأة والمشاركة في تحصيل مدخول العائلة. وفي ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة الحاليّة يسعى الزوجان إلى الحفاظ على تأمين تعليم ذو مستوى عال لابنهما جاد، كما تشدّد هبة. يعتبرانه أولويّة لابنهما، خصوصاً في السنوات المبكرة من تعلّمه. وهذا أحد الأسباب الذي دفع الأمّ إلى تقديم الدروس الخصوصيّة بعد الظهر من أجل المساهمة في تغطية تكاليف المدرسة المرتفعة. "لولاها ولولا جهودنا معاً لما استطعنا تسجيله في هذه المدرسة، ولما استطعنا شراء شقّة خاصّة بنا"، أخبرنا عمر. يتذكّر الزوجان كيف عاشا في منزل مُستأجر لفترة، وكيف بدآ من الصفر في كلّ شيء، قبل أن يتمكّنا من شراء شقّتهما التي استقرّا فيها قبل مدّة. يرجعان ذلك إلى علاقتهما القائمة على حضور الطرفين بنحو متساو ضمن العائلة، والقيام بأدوارهما معاً. من الصعب لهذا التعاون في العمل وتأمين حياة مستقرّة مادياً للعائلة أن يستمرّ من دون الحوار بين الطرفين. أما فيما يتعلّق بمهمّات البيت، فلا تجد هبة حاجة للطلب من زوجها في أن يساعدها مثلاً، بل يقوم بذلك وحده. هذا ما يؤكّده عمر "أنا لا أنتظر منها أن تطلب إلي القيام بأي مهمّة أو عمل داخل المنزل، إذا رأيت صحوناً في المجلى أتولّى الأمر وحدي. لست من نوع الرجال الذي يأتي إلى المنزل وحين لا يجد طعاماً يجنّ جنونه". ويوضح لنا بأنه لا يقوم بهذا كردّ جميل لها على تعبها في وظيفتها، بل لأنه يعتبر أن هذه واجباته في البيت. انتقلت هذه العلاقة إلى ابنهما جاد. لقد تعلّم أن يقوم بواجباته في البيت، أكان من خلال مشاهدة والده يقوم بأعمال المنزل أو من خلال تربية الأهل له. تتذكر هبة "ذات مرّة كنت أشعر بالتعب، فوجدت أن ابني جاد قد غسل الصحون من دون أن نطلب منه القيام بذلك"، لقد شعر بالمسؤولية وحدة، تماماً مثل مسؤوليّته في ترتيب غرفته وأغراضه.
وبالعودة إلى دور التربية والمجتمع في تأطير شخصيّة الرجال، يعترف عمر أنه لم يكن يساعد والدته في البيت حين كان لا يزال يعيش معها. لقد تطوّرت قناعته واختلفت تماماً عما كانت عليه. في السابق، كان مثل معظم الشباب إذ "لم أكن أرفع الصحن من مكانه بعدما أنتهي من الأكل" يقول عمر الذي كان يعتبر أن ذلك من واجبات الإناث. تغيّرت مفاهيم كثيرة بالنسبة إليه حين تعرّف على هبة التي بنى معها علاقة مختلفة منذ زواجهما قبل سنوات. كان لهبة دوراً أساسياً في ذلك، حيث ساهمت عبر الحوار ومن خلال مشاركتها العمليّة في إدارة شؤون البيت في تغيير قناعاته خصوصاً لناحية تقديره لأهميّة المرأة ودورها في الأسرة. وهنا تشير هبة بصراحة إلى أن والدة عمر استنكرت الأمر في البداية، خصوصاً أنها رأت ابنها يساعدها، بينما لم يكن يقوم بذلك في منزل والديه. إلا أن الوالدة تقبّلت هذا الأمر لاحقاُ وباتت تقدّر جهود ابنها الذي صار يساعد والدته أيضاً. لقد بات عمر يعي أكثر كيف يمكن لمفهوم التشارك والحوار بين الرجل والمرأة أن ينعكس إيجاباً على الأسرة، وأن يغنيها خصوصاً إذا ما تبادل الزوجان أفكارهما وآرائهما بهدوء. هكذا حارب وتخلّى عن بعض الأفكار النمطية التي تربّى عليها، كما بات مستعدّاً أكثر للنقاش ولإعادة النظر في كلّ تلك الموروثات.
أجريت هذه المقابلة ضمن برنامج الرجال والنساء من أجل المساواة بين الجنسين (2019 –2021) الممول من الوكالة السويدية للتنمية الدولية (SIDA). وضمن هذا المشروع، عملت منظمة "كفى" بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة في لبنان على دعم منظمات المجتمع المحلي في تصميم وتنفيذ وتطبيق حلول مجتمعية، مصممة لسياقات محلية، من أجل تحدي المعايير الاجتماعية وتعزيز المساواة بين الجنسين.