الأبوّة الإيجابية: تجربة أحمد ودعاء من مدينة صيدا
لا يتذكّر أحمد فقيه تحديداً متى بدأ في المشاركة بالأعمال المنزلية. يعرف أنه بدأ يشارك أمه في الأعمال المنزلية منذ أن كان طفلاً، يرتّب خزانته ويطبخ ويوضّب أغراضه. حافظ على عاداته تلك، وطوّرها في بيته المشترك مع زوجته دعاء عفارة في حي الفوّار في صيدا حيث يعيشان مع ولديهما جوري وناصر. هذا الشهر تكون قد مضت سبعة أعوام على زواجهما، من دون أن يغيّر هذا الوقت شيئاً من عادات الزوجين وشراكتهما في مهام المنزل ورعاية الأطفال. «منذ فترة الخطوبة لم تتبدّل اتفاقاتنا. مثلاً أخبرته أنني أكره كي الثياب، وهو ما زال حتى اليوم يقوم بهذه المهمة في البيت إذ يكوي ثياب أفراد الأسرة كلّها»، كما أخبرتنا دعاء.
استمرّ التعاون منذ بداية الزواج، وفق دعاء التي تضيف: «لم يكن قد مضى على ولادتي ستة أشهر حتى عرفت أنني حامل مرّة أخرى. شعرت بالقلق حينها. لكنه طمأنني بأنه سيبقى إلى جانبي. وهذا ما حصل بالفعل. لم أشعر بالحاجة إلى أحد من أهلي. هو اهتمّ باستضافة المهنئين، وظلّ إلى جانب طفلتنا جوري لمّا كان عمرها سنة. كان يطعمها ويستيقظ معها في الليل. وأنا كنت أتولى رعاية مولودنا الجديد ناصر».
أحمد هو أستاذ لمادّة المهارات الحياتية (Life Skills) في إحدى المدارس الخاصّة في منطقة صيدا. كذلك، يعمل كناشط اجتماعي في مبادرات عدّة ويدير ورش عمل، آخرها بعض الورش التي نفّذها بالتعاون مع جمعية "أبناء صيدا". أما دعاء فقد درست إدارة الأعمال في الجامعة، وتشير هنا إلى دور والدها الداعم لها ولكل أخواتها، خصوصاً في حثّهن على استكمال تعليمهن الجامعي.
يؤكّد أحمد أن التربية العائلية وحدها، لم تكن لتدفعه كشاب للمضي في هذا الاتجاه خصوصاً في مجتمعه. "تربيتي وحدها لم تساهم في هذا. ولا المجتمع الذي كان يقوم على الدوام بتكريس المعايير النمطية للتمييز بين الجنسين. ربما ساهم في ذلك أنني كنت الولد الأكبر لدى عائلتي، وأنني كنت أساعد أمي دائماً، لكن ذلك لم يكن السبب وحده". إذ ترافق ذلك مع نظرة نقدية بدأت تتشكّل لديه اتجاه الكثير من المفاهيم السائدة في المجتمع. نظرة رسّختها الورش والمخيمات التي راح يلتحق بها في مراهقته: "تعرّفت على وزارة الشؤون الاجتماعية والمخيّمات التطوعية التي انخرطت بها لسنوات". كانت تلك المخيّمات بمثابة تجارب حيّة عن هذه الأفكار وتدريب عملي على ممارستها، إذ كان يُطلب من الشبان أن يتولوا مهام الجلي والتنظيف والترتيب، بينما تنصرف الفتيات إلى أعمال أخرى.
البيت والعائلة: مجتمع مصغّر للمساواة والتشارك
يقدّر الزوجان الجهود التي يبذلانها في البيت مع الأطفال، وفي العمل، وهذا ما يدفعهما إلى مساندة بعضهما في كل تفاصيل حياتهما. «الدور الذي تؤديه زوجتي مع ولدينا يتطلّب جهداً كبيراً، لقد ضحّت بعملها هذه السنة من أجل متابعة تعليمهما» يشير أحمد. اعتادت دعاء كلّ سنة على تدريس الطلاب في المنزل، لكنها تخلّت عن عملها أخيراً، من أجل التفرّغ لتعليم جوري وناصر ومتابعة دروسهما أونلاين، بسبب انتشار وباء كوفيد – 19. إذا كانت دعاء قد تخلّت عن عملها في الدروس الخصوصية، فهذا لا يعني "أنها لا تقوم بعمل شاق مع الأطفال، وهو لا يقلّ جهداً عن عملي في المدرسة" وفق أحمد. لذلك، يستغلّ كل الفرص المناسبة لكي يعبّر لها عن هذا التقدير. قبل يومين من زيارتنا، كان قد أقام ورشة إعادة طلاء أقسام من البيت وتعزيله، فقد "طلبت منها الذهاب إلى منزل أهلها، وحين أنهيت كل شيء، دعوتها مجدّداً إلى البيت". هذا جزء من المهمات التي يتقاسمها الزوجان لناحية العمل المنزلي أو في تربية طفليهما والاعتناء بهما. لكن ذلك لا يقتصر بالنسبة إليهما على الواجبات فحسب. إذ يسعى إلى دعم دعاء معنويّاً، وتأمين فترات خاصة لها، فيقوم هو برعاية الأولاد، تاركاً لها الوقت لكي ترتاح نهار الأحد، أو لكي تمارس الرياضة في الخارج أو تهتم ببعض أمورها الشخصية.
تحرص دعاء وأحمد على نقل هذه التجربة إلى طفليهما، من خلال التربية والمشاركة في أعمال المنزل. لدى ناصر دور في العمل المنزلي تماماً مثل جوري، إذ يكنس ويرتب الأغراض ويساعد والدته في المطبخ. يعلّم الزوجان هذه القيم لأطفالهما يكلّ الطرق، أكان من خلال الممارسة والتطبيق اليومي أو في الأفكار والحكايات. كل ليلة، يحكي أحمد قصّة لجوري وناصر، وهي قصص بدأ بكتابتها لهما وعنهما منذ ولادتهما. حتى الآن ألّف الأب سلسلة من الحكايات عن طفليه، يكونان هما بطليها. هكذا لا تمرّ ليلة واحدة من دون أن يحكي لهما فيها قصّة قبل النوم حول مواضيع عدّة منها التعاون، والتنمّر... والأهم أنه يصر على منح الإناث أدواراً فاعلة فيها مثل الأمّ التي تكون بطلة ومنقذة، من غير أن يحصر دورها في شؤون البيت، كما تمثّلها التنميطات الجاهزة عن المرأة في المجتمع. في إحدى القصص، تنقذ الأمّ العصفور من الموت، وتعالج جرحه مع جوري وناصر، إلى أن يستعيد قدرته على الطيران مجدّداً. أنجز أحمد حتى الآن مجموعة من هذه القصص التي يكتبها بخطّ يده ويرفقها بالرسومات ضمن كتب مصنوعة يدويّاً، ويقرأها لطلّابه في المدرسة أيضاً، ضمن سعيه إلى نشر هذه القيم والمفاهيم خارج إطار عائلته.
المحيط والأقارب... نشر التجربة
يعيش الزوجان وسط مجتمع محافظ، لكنهما أمّنا لعائلتهما الصغيرة جوّاً مختلفاً، خصوصاً لجوري وناصر، لناحية تربيتهما بعيداً عن الأفكار والأعراف القائمة على التمييز بين الجنسين.
بالنسبة إلى بعض الأصدقاء، تحوّلت تجربة دعاء وأحمد إلى مثال خصوصاً في محيط اجتماعي يصعب فيه وجود علاقات تشاركية في الرعاية المنزلية وفي كافة شؤون الحياة. فقد استطاعا التأثير بالمعارف والأصدقاء، خصوصاً ممن كانوا يعتمدون الفصل بين النساء والرجال في الجلسات والزيارات المنزلية والمناسبات. غير أن دعوات الزوجين إلى التشارك، وتقسيم الأدوار تثير ردود الفعل السلبية أحياناً، "هناك بعض الأقارب الذين لا يحبذون وجودي لأنني أنتقد وأتكلّم باستمرار" يشرح أحمد، خصوصاً من قبل بعض الرجال الذين لا يتقبّلون القيام بهذه الأعمال ومساندة زوجاتهم، بل يعتبرونها انتقاصاً من رجوليتهم. في المقابل، يشدّد أحمد على أن "الزواج هو مؤسسة تقوم على تعاون وتسيير وتشارك بين الزوجة والزوج، أي أن يكون للأب دور أساسي في الرعاية مثل الأم تماماً، وهذا لا ينتقص من رجوليته ولا من شأنه أن يضعه في موقع دوني مثلما قد يظن البعض". لا يفوّت أحمد فرصة للدعوة إلى المساواة بين الجنسين في عمله الاجتماعي في المدرسة وورش العمل وفي المسجد أيضاً، حيث يقيم بعض الأنشطة مع الأطفال. مثلاً، في المسجد كان يتم فصل اللجنة النسائية عن الاجتماعات عن اللجنة الرجالية، "بعد فترة من الحديث، والنقاش مع المعنيين والشيخ، صارت أخيراً الهيئة النسائية تشارك الهيئة الشبابية في الاجتماعات"، وهذا ما يعتبره إنجازاً حيث استطاع أن ينقل هذه التجربة إلى مجال أوسع. انطلاقاً من هذه الحادثة، يعي الزوجان أن التغيير ليس مستحيلاً، خصوصاً إذا ما تمّ ذلك من خلال الإقناع والنقاش الهادئ لأفكار لا تبتعد، برأيهما، عن صلب قيم ومفاهيم المجتمع. وفي حالتهما، فإن الخطوة الأولى للتغيير تمثّلت بالبيت، تلك المساحة الحاضنة لقناعات طوّراها ورسخاها معاً بالممارسة، قبل مشاركتها مع الآخرين.
أجريت هذه المقابلة ضمن برنامج الرجال والنساء من أجل المساواة بين الجنسين (2019 –2021) الممول من الوكالة السويدية للتنمية الدولية (SIDA). وضمن هذا المشروع، عملت منظمة "كفى" بالتعاون مع الامم المتحدة للمرأة في لبنان على دعم منظمات المجتمع المحلي في تصميم وتنفيذ وتطبيق حلول مجتمعية، مصممة لسياقات محلية، من أجل تحدي المعايير الاجتماعية وتعزيز المساواة بين الجنسين.