"عنف رمزي ومعنوي".. من يدفع ثمن اعتكاف القضاة في لبنان؟

"عنف رمزي ومعنوي".. من يدفع ثمن اعتكاف القضاة في لبنان؟

"لم أتصور يوما أن تُنتزع الروح من جسدي وأنا على قيد الحياة، هذه هي حالتي منذ 8 أغسطس الماضي، تاريخ حرماني من طفليّ، رغم حصولي على قرار قضائي بحق حضانتهما، إلا أن اعتكاف القضاة يحول دون تنفيذ القرار، وها أنا أدفع ثمن إضرابهم ألما ووجعا من دون ذنب"، بهذه الكلمات عبّرت رامونا عبد الهادي عما تعيشه وعدد من النساء في ظل "شلل" العدالة في لبنان. 

في ذلك اليوم، سلّمت رامونا طفليها إلى والدهما بهدف اصطحابهما إلى طبيب للمعاينة نتيجة إصابتهما بمرض الجدري، كونها لا تملك المال لعلاجهما، وبعدها رفض إعادتهما إليها، قصدت منزله داخل مخيم مار الياس، إلا أنها، كما تقول، "تعرضت للضرب على يده ويد والدته".  

منذ غياب سيلينا (سنتين) ومحمد (سنة) عن والدتهما، وهي تحاول ما في وسعها لاستعادتهما، لكن، وكما تشدد في حديث لموقع "الحرة"، "لا أحد يشعر بألمي ويسمع أنيني، فحين توجهت إلى المخفر قيل لي ليس هناك مدع عام لإعطاء الإشارة، وعندما توجهت إلى دائرة التنفيذ رفضت القاضية التي تتابع الملف التوقيع على قرار التنفيذ، رغم توسلي إليها واطلاعها أن القضية استثنائية تتعلق بطفلين". 

قصدت رامونا النيابة العامة، حيث تعاطف أحد القضاة معها، طالبا منها التوجه إلى المخفر من جديد، واخبار رتيب التحقيق بأنه ينتظر اتصاله، "وهو ما حصل بالفعل، إلا أنني إلى الآن لا زلت أنتظر من دون أن أعلم لماذا كل هذا التأخير في إعادة طفليّ". 

أعلن قضاة لبنان الشهر الماضي إضرابهم عن العمل، احتجاجا على الظروف المادية والمعنوية التي يمرون بها، محمّلين الطبقة الحاكمة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في بلدهم. ومثل بقية المواطنين، يعاني القضاة من الأزمات التي تعصف بلبنان، وعلى رأسها ارتفاع سعر صرف الدولار وانهيار قيمة رواتبهم. 

بدأت التداعيات الخطيرة لاعتكاف القضاة في لبنان تنعكس على النساء والأطفال ضحايا العنف الأسري. والأسبوع الماضي "لجأت 15 سيدة من ضحايا العنف الأسري بحالة طارئة إلى منظمة كفى، ولم تستطعن نتيجة اعتكاف القضاة من التقّدم بشكوى جزائية، ولا الحصول على قرار حماية، ومنهنّ من خسرن أطفالهن الرضّع". 

هذا الأسبوع لجأ إلى المنظمة، بحسب ما ذكرت عبر صفحتها على فيسبوك "20 سيدة، 12 منهن بحالة طارئة، وكنّ بحاجة لاتخاذ إجراء قانوني يؤمن لهن الحماية. حالة واحدة فقط تم فتح محضر بشكواها بناء على اشارة القاضي رائد أبو شقرا، و11 حالة لم تستطع التقدم بأي إجراء قانوني بسبب اعتكاف" القضاة. 

أحكام في مهب الاعتكاف 

أرقام الحالات التي تنشرها "كفى" على فيسبوك ترد إلى مركز الدعم عبر الخط الساخن، من نساء يطلبن المساعدة، بحسب ما تقوله المحامية في منظمة "كفى" فاطمة الحاج. وتشرح "الأمر لا يقتصر على عدد الحالات التي ننشرها، وعلى سبيل المثال أكثر من خمس حالات تتعلق بالحضانة وصلت إلى كفى خلال الأسبوع الماضي، إلا إننا لم نتمكن من إعادة الأطفال الرضع إلى حضن أمهاتهن، فأحكام المشاهدة والحضانة لا تنفذ للأسف، عدا عن أننا نحاول التدخل وفتح محاضر لحماية النساء من العنف". 

يمكن حصر تأثير اعتكاف القضاة على النساء في ثلاث حالات، بحسب ما تقوله الحاج لموقع "الحرة"، شارحة "الأولى تتعلق باللواتي يتعرضن للعنف ولا يستطعن التقدم بشكاوى جزائية في النيابات العامة، أي أنه لا تتم محاسبة المعتدي، أما الحالة الثانية فتتعلق بعدم القدرة على تنفيذ القرارات الصادرة عن محاكم الأحوال الشخصية من حضانة ومشاهدة ونفقة، والحالة الثالثة عدم قدرة النساء على الحصول على قرار حماية من قضاء العجلة". 

 يشعر المعتدي في ظل شلل الجسم القضائي، كما تؤكد المحامية في "كفى" "أنه بأمان، فأيا يكن الجرم الذي يرتكبه، من الصفع إلى التهديد بالقتل وحتى القتل، لن يحاسب، بالتالي أصبحت حماية النساء في مهب الريح، والأحكام التي تصدر حبر على ورق، فالقضاء لا يتحرك إلا بضغط كبير من جمعيات ونافذين لفتح محضر، وفوق هذا فإن الإشارات التي تصدر لا تتواءم مع نوع الجرم المرتكب، حيث لا يتم توقيف المدعى عليه، أو لا يجري إعادة الضحية إلى منزلها". 

حين ارتبطت رامونا بزوجها كانت تعمل موظفة في احدى المستشفيات، وتساعده في مصروف البيت كون وضعه المادي، كما تقول "كان سيئا، وبعد أن تحسنت ظروفه وتوقفت عن العمل، أصبح يعنفني لفظيا وجسديا، عدا عن خياناته المتكررة، وضربه وشتمه لي، كما كان يرفض تأمين حاجياتي وطفليّ، أمور عدة تراكمت دفعتني في النهاية إلى طلب الطلاق". 

وتعتبر الوالدة التي تعيش حالة حزن نتيجة غياب طفليها عنها، أن السبب الرئيسي لحرمانها منهما هو عثورها على عمل من جديد، وتشير إلى أن طليقها "استشاط غيظا لأني أصبحت مستقلة، فعقليته الذكورية لم تستوعب أن أشق طريقي من جديد دون الحاجة إلى أحد، إلا أنه يحاول إخفاء الحقيقة باتهامي ظلما بأني غير جديرة برعاية طفليّ، وهو يستند في ادعاءاته على مرضهما، رغم أنهما التقطا العدوى حين كانا لديه". 

تأسف رامونا (تحمل الجنسية الفلسطينية، في حين أن طفليها لبنانيان بحكم أن والدهما فلسطيني مجنس)، أنها تعيش في بلد لا يحترم حقوق الإنسان، ولا يراعي أدنى معايير الإنسانية، وتخشى، كما تشدد، أن يطول اعتكاف القضاة، الذي يستغله طليقها، وتضطر مرة أخرى إلى قصد منزله وتتعرض للضرب من جديد، مؤكدة أنها سبق وتعرضت للتعنيف ليس فقط على يده بل كذلك على يد والدته وشقيقه. وختمت مشددة "منذ حرماني من طفلي، توقفت عقارب الساعة بالنسبة لي، وها أنا أنتظر أن أعود إلى الحياة من جديد". 

نكث اليمين 

تعرّف اخصائية علم النفس هيفاء السيد العنف بأنه "استخدام للقوة بطريقة غير قانونية أو التهديد باستخدامها من أجل التسبب بالضرر والأذى للآخرين، ويقصد بالعنف ضد المرأة أعمال عنف ترتكب بشكل أساسي ضد النساء والفتيات، نتيجة عدم الاعتراف بالمساواة بينهن وبين الرجل على كافة الصعد، وغالبا ما ينظر إلى ذلك على أنه وسيلة لإخضاع المرأة في المجتمع بشكل عام أو في العلاقات الشخصية بشكل خاص". 

وعددت هيفاء الأسباب التي تؤدي إلى العنف ضد المرأة في حديث مع موقع "الحرة"، وهي "الصراع والتوتر في العلاقة بين الزوجين أو معاناة بعض الرجال من الأمراض النفسية كاضطراب ثنائي القطب والفصام المصحوب بجنون العظمة، كما يقترن بالاضطرابات الشخصية كالإدمان على الكحول وتعاطي المخدرات، ولا نغفل عن تدني مستوى التعليم وغلبة الجهل والتخلف والمعتقدات السائدة حول نظرة المجتمع الذكوري، المتمثلة بأن الرجل هو صاحب السلطة على المرأة وبالتالي يحق له التعامل معها وكأنها كائن لا قيمة له". 

وتضيف "كما تلعب الضائقة الاقتصادية والزيادة في نسبة البطالة أو الفروقات في الدخل الاقتصادي بين الزوجين، كتمتع المرأة بوضع اقتصادي أفضل من زوجها، دورا في العنف الممارس ضد المرأة، حيث ينظر إليها على أنها تتمتع بالقوة الكافية لتغيير الأدوار التقليدية للجنسين". 

وتلفت أخصائية علم النفس إلى مرحلة الطفولة والدور الذي تلعبه "فالشخص الذي يتعرض لتأديب بدني قاس أو مشاهدة والدته تُعنف، قد يتماهى بسلوكيات الأب من خلال ممارسة العنف ضد زوجته مستقبلا، مع العلم أن سكوت المرأة عن العنف الممارس بحقها سيحفز الزوج على ارتكاب المزيد"، والعامل الأكثر أهمية اليوم، كما تقول، "هو غياب الدور القضائي ومراعاة النوع الاجتماعي في أنظمة العدالة القانونية والجنائية، والذي يدفع الرجل إلى ممارسة العنف ضد المرأة دون الخوف من العقاب". 

من جانبها تؤكد الأستاذة الجامعية، الباحثة الاجتماعية، البروفيسورة وديعة الأميوني، أن للعنف ضد المرأة أشكالا عدة، منه، كما تقول لموقع "الحرة"، "العنف النفسي والجسدي والجنسي، وهو يعود لأسباب وعوامل كثيرة، منها ما هو مرتبط بالثقافة الذكورية والدوافع الاجتماعية، ومنها ما هو مرتبط بالدوافع النفسية والذاتية المرتبطة بالتربية والجينات المتوارثة، عدا عن الأسباب الاقتصادية ومنها البطالة. واليوم أُضيف عامل هام جدا ألا وهو غياب تطبيق القانون، فالجسم القضائي شبه مستقيل من دوره، لا بل كل الدولة مستقيلة من مسؤولياتها". 

أما رئيسة الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة، لورا صفير، فأشارت في حديث لموقع "الحرة" إلى مدى تأثير الوضع الاقتصادي والمعيشي السيئ على الوضع الاجتماعي، إذ قالت "مع تراجع قيمة مداخيل المواطنين بشكل كبير، نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، ارتفع منسوب العصبية لدى اللبنانيين، الأمر الذي انعكس على العلاقات داخل الأسر، وبما أن المرأة هي الكائن المستضعف، تتعرض للعنف، وهو أمر مرفوض"، لافتة كذلك إلى اعتكاف القضاة وما ينتج عنه من زيادة مآسي النساء. 

ذكّرت الأميوني القضاة بقسمهم عند تسلم مهامهم، كما هو حال الأطباء، قائلة "فلنتخيل على سبيل المثال أن الأطباء أعلنوا الإضراب تاركين المرضى لمصيرهم، فما يمارسه القضاة اليوم لا يختلف عما لو أضرب الأطباء، فالجسم القضائي ليس مؤسسة ثانوية في لبنان، بل هو ركيزة، ورغم كل الصعوبات التي يمر بها القضاة، لا يفترض بهم أن يواجهوا العنف بالعنف، إذ ليس من حقهم الاعتكاف عن مهام سبق وأقسموا يمينا على تأديتها على أكمل وجه". 

"عنف قضائي" 

تصف الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية إضراب الجسم القضائي بـ "العنف الرمزي والمعنوي الممارس بحق المرأة والمجتمع اللبناني ككل"، متسائلة "كيف يتم حماية المرأة في ظل غياب القضاء، ولا نغفل أن القانون في لبنان أساسا لا يحميها بشكل كاف، وبالتالي يجب العمل على التشريعات والقوانين لتصل إلى القدر المطلوب الذي يؤمّن لها الحماية، إذ حتى ضمن القانون الحالي حقها غير محفوظ، فكيف مع غياب القضاء". 

جميع اللبنانيين يعانون في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف ببلدهم، لكن كما تشدد الأميوني "هناك مؤسسات لا يمكنها غلق أبوابها كي لا تصل الدولة إلى الفوضى والانهيار التام، من هنا يجب ألا يجري تعطيل النظر بقضايا الناس، سواء من خلال المناوبة بين القضاة، أو من خلال البحث عن وسيلة أخرى لإيصال الصوت للحصول على حقهم الذي لا ينكره أحد، لكن من دون أن يدفع الثمن المواطن اللبناني". 

وتعتبر الأميوني أن "غياب القانون العادل بحق النساء، وغياب تطبيق القانون الحالي يزيد من نسبة العنف ضد المرأة، الامر الذي ينعكس سلبا على الواقع المجتمعي ككل، مستذكرة قولا للفيلسوف كارل ماركس: "لمعرفة مقدار تقدم أو تخلف أي مجتمع، ما عليك سوى معرفة مكانة المرأة عندهم"، وبالتالي فإن حالة المرأة اللبنانية تظهر مدى تخلف هذا المجتمع، فبدلا من السير قدما يتراجع للأسف إلى الخلف". 

ومهما كان الوضع سيئا، يجب ألا تترك المعنفات، تشدد صفير، "من دون حماية، ونحن كجمعية نقف إلى جانبهن، نقدم لهن الاستشارة القانونية، ونتابع قضاياهن في المحاكم، نقدم لهن الدعم النفسي والاجتماعي، ونعقد جلسات توعية حول حقوقهن وكيفية الدفاع عن أنفسهن، كما نعمل على تقوية شخصيتهن، ونحاول تمكينهن اقتصاديا من خلال تعليمهن بعض الحرف، كي يعتمدن على أنفسهن، إلا أننا لا نستطيع وحدنا القيام بعمل الدولة". 

 كذلك تشدد على ضرورة تطبيق القوانين مهما كانت الظروف، "لا سيما قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، إذ لا يجوز ترك هؤلاء النساء في مهب الريح، كما يجب إقرار مشاريع القوانين التي توصل المرأة إلى العدالة، وتعديل القوانين المجحفة بحقها، لتحقيق المساواة وإلغاء التمييز بينها وبين الرجل، فالأسرة هي نواة المجتمع وعدم الحفاظ عليها سيؤدي إلى تفكيكه".  

ولابد، كما تقول هيفاء، من وضع حد للعنف ضد المرأة، وذلك من خلال "تشريع قوانين رادعة، تنص على عقوبات تنهي العقلية الذكورية عن مثل هذه الممارسات التعسفية ضد النساء، إضافة إلى تقديم خدمات توعوية وتثقيفية كالمساواة بين الرجل والمرأة، واحترام حقوقها بصفتها إنسان، وذلك من خلال التواصل وحرية التعبير بين الشريكين، والنظرة للمرأة كجزء لا يتجزأ من المجتمع، ومعاملاتها كعضو ناجح باعتبارها ذات كيان"، مشددة على دور "المؤسسات الدينية في تكريس التراحم والترابط الأسري، وبيان نظرة الأديان للمرأة والمكانة التي منحتها لها من التقدير والاحترام". 

وعن مدى حماية القانون اللبناني للمرأة أجابت الحاج "نحن نعول على قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، المعدل في ديسمبر 2020 والذي سبق أن رفعنا الصوت لتطبيقه لتشكيل أداة ردع في وجه المعتدي، لكن تقاعس القضاة لناحية عدم التسريع في محاكمة المعتدين، وتعزيز ثقافة الإفلات من العقاب، يسمح باستمرار سيطرة العقلية الذكورية وكأن هناك من يساعد المجرم حين يرتكب جنايته، من المجتمع ككل ومن بينه الجسم القضائي". 

تحذّر "كفى" من "استمرار قضاة لبنان في اعتكافهم، لأن تراجع الجسم القضائي عن الاستجابة لاستغاثة النساء، ضحايا العنف الأسري، والامتناع عن تفعيل حمايتهم الأسرية والمجتمعية، سيؤدي إلى تعريض ضحايا العنف الأسري للأذى والضرر الجسيم وإلى سقوط ضحايا جدد، لتسود حالة من الفوضى الشاملة ضد النساء، وإعادة تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب ضد المجرم، وتعطيل الأحكام القضائية التي سبق أن صدرت في موضوع العنف الأسري، وعدم قدرة النساء من الوصول إلى العدالة وإحقاق الحق".