"عليكِ الاطاعة": نعم أنا ناشز!

رفعت ماري ليندسي، وهي امرأة أميركية دعوى ضد شريكها كوبي هارس واتهمته بالاعتداء المتكرر عليها. ولمتابعة الدعوى، عقدت جلسة استماع عبر "زووم" مطلع شهر آذار/ مارس 2021، وقد حضرت الجلسة المدعية وشريكها والقاضي والمحامية وكل الفريق القضائي المعني. 
في الجلسة، بدت ليندسي من خلال الشاشة تنظر حولها بارتياب ما دفع بمحاميتها الى الشك في وجود الزوج في المكان ذاته، على رغم أنه يظهر في فيديو الجلسة وكأنه في مكان آخر. طلبت المحامية من الشرطة التوجه إلى المنزل وأعربت للقاضي عن قلقها على سلامة موكلتها.
هنا، بادر القاضي سريعاً بسؤال كوبي هاريس عن مكان وجوده، فحاول التملص وكذب على القاضي، كي لا يظهر أنه في المكان نفسه، لكن كانت الشرطة قد وصلت إلى المنزل وكشفت أن المدعى عليه قد كذب وأن شريكته كانت فعلاً خائفة من وجوده معها خلال جلسة الاستماع. 



رواية هذه الحادثة لجمهور عربي ولبناني ليس من باب الانبهار الساذج بأن قاضياً ومحامية وشرطة في الولايات المتحدة، تداركوا احتمال تعرض سيدة لعنف من شريكها وتمكنوا من حمايتها. لكن في الحقيقة من المستحيل أن لا نقع في فخ المقارنة، خصوصاً أن فيديو الجلسة انتشر عبر الإعلام والسوشيل ميديا. فكما اطلعتُ عليه، من المرجح أن كثيرات قد شاهدنه وأجرين مقارنات لا يمكننا أن نغفلها.
هل يمكن أن تكون شابة مثل اللبنانية لارا شعبان قد شاهدته؟


لارا تعرضت مطلع عام 2021 لاعتداء بشع من زوجها الذي طعنها بسكين ومزق رئتيها وشوه وجهها، لكنها نجت من الموت بأعجوبة. وهذا الاعتداء كان الحلقة الأقسى في مسار قضائي تخوضه لارا التي لم تستطع الحصول على الطلاق، لأن المحاكم الجعفرية التي تتبع لها لا تتيح للمرأة تطليق نفسها بل هو قرار بيد الزوج وحده، والمحاكم نفسها لم تتعامل بجدية مع إعلان لارا انها تتعرض للتهديد والعنف. فعلى غرار كثيرات، لم يتدارك قضاء الأحوال الشخصية معاناة لارا حين كانت تنقل شكواها إلى المحكمة، فهي عجزت عن الحصول على الطلاق والحماية من التهديد، حتى كادت تموت فعلاً.



"المحاكم ضدي"


هناك آلاف النساء اللواتي تُهدد حيواتهنّ وتمارس بحقّهنّ أبشع أنواع العنف والتمييز. وإن كان القتل أو الشروع في القتل هو ذروة الاستهداف، لكنه الحلقة الأخيرة من مسار الإقصاء الجسدي والمعنوي والقانوني تحت سمع وبصر المجتمع الذكوري الذي يعتبر المرأة ملكية خاصة ويبرّر محاصرتها وتأديبها ويتساهل مع قتلها.
ما أن تصل إلى ساحات المحاكم الطائفية، في ردهاتها وقبل الدخول إلى جلسات المحكمة، ستلتقي بعشرات القضايا العالقة على وجوه نساء كثيرات يخضن رحلة تيه بين ردهات القاعات، وأمام قوس المحكمة، حيث يجلس قضاة دينيون كلهم ذكور، يحددون للنساء وللعائلات كيف تعيش وكيف تتزوج وتطلق وترث باسم الدين والطائفة.

تمتلئ المحاكم بقصص وحكايات لا تنتهي عن الطلاق أو فسخ الزواج أو التفريق بين الزوجين أو الخلاف على الحضانة والإرث. فنحن لا نتوقف عن الذهول والصدمة والغضب حين نقرأ أحكاماً قضائية تبدو وكأنها من زمن آخر. 
إشكالية لبنان الذي يضم 18 طائفة ونحو 15 قانوناً للأحوال الشخصية، هي عدم امتلاك قانون موحد للأحوال الشخصية، لأن الطوائف هي التي تحكم، ما يُضعف المساواة حتى بين النساء أنفسهن، من طائفة إلى أخرى، بينما تتلاقى مختلف قوانين الأحوال الشخصية على التمييز ضد النساء.
في تلك المحاكم نصوص وتسميات تم التطبيع معها لعقود طويلة تحفل بعبارات تزين الإهانة والعنف والتمييز بوصفه قانوناً إلهياً منزلاً، لا تجوز مقارعته. 


من يقرأ الأحكام سيجد لائحة طويلة من التسميات والتوصيفات المتعلقة بالأدوار والعلاقات والمسؤوليات، تبدو من عالم سحيق غالباً ما يضع النساء في مرتبة دنيا في تركيبة الأسرة وتوازنات القوى فيها.


من لحظة البداية، أي من لحظة الزواج يتم إطلاق تسمية "عقد نكاح" في المحاكم الإسلامية مثلاً على عقد الزواج. بحسب القانون، الهدف من الزواج بشكل أساسي هو النكاح أي ممارسة الجنس. يطلق على المرأة عبارات من نوع "منكوحة" أو "موطوءة". لا بل تختلف معاملة النساء بحسب عذريتهن، فيتم استخدام عبارة "ثيب"، أي تمّ الدخول عليها وفض غشاء بكارتها. توصيفات تعطي قيمة أخلاقية ودينية وقانونية لجسد المرأة وعمرها، فهي "كبيرة" أو "مطلقة" أو "ثيب" أو "بكر" ما يكرس هويتها ضمن مفاهيم تتعلق بجسدها الذي لا سلطة لها عليه، بل هي تابعة للرجل، وللمفارقة لا تتم تسمية الرجل بأي من التسميات التمييزية التي تطاول النساء، فالقوانين لا تتحدث عن رجل "بكر" أو "ثيب" أو "كبير" أو "مطلق".

 



قوانين ناشز


الطوائف التي تتصارع تاريخياً في لبنان لتثبيت حصصها ومواقعها تختلف تقريباً على كل شيء في السياسة والمواقف، لكنها تتفق مثلاً على استخدام مصطلح "الناشز"، وهو توصيف محصور بالنساء، مذكور في مختلف قوانين الأحوال الشخصية المسيحية والإسلامية، ويعني المرأة التي تغادر المنزل الزوجي وترفض العودة وطاعة زوجها، وعقوبة المرأة "الناشز" عدم الإنفاق عليها من الزوج. وطرح هذا التوصيف المهين أي "ناشز" والمستخدم في المحاكم ليس للحديث عن مبدأ النفقة، لكن للإشارة الى الوصم الاجتماعي والقانوني للنساء في هذه العبارة التي تخص المرأة وحدها دون الرجل. فوصف المرأة بالنشوز قانوناً يوحي وكأنما هي في مكان وقد انفكت عنه فاستحقّت هذا التعريف، ليبدو كأنّه تهمة.

ولفهم كيف تفكر المحاكم في النساء وكيف تتعامل معهن، نعرض بعضاً من الأحكام التي حصلنا عليها، وحفاظاً على خصوصية النساء المعنيات لم نورد أسماء أو تفاصيل تحدد هويتهن.

 



"ألزمتها بإطاعته"


في هذه القضية، رفع الزوج في المحكمة الشرعية السنية في بيروت على زوجته دعوى "إطاعة ومساكنة"، وهو تعبير قانوني يكرّس مبدأ أن العلاقة الزوجية ترتكز على إطاعة الزوجة لزوجها. وهنا في الدعوى يشكو الزوج من أن زوجته "تستضيف امرأة اثيوبية بدون رضاه وتستضيف أولاد جارته من دون إذنه… وهي تمتنع عن فراشه منذ ستة أشهر…"


ويخلص حكم المحكمة إلى: "حيث أن المدعي صرح أن المدعى عليها في دعوى الإطاعة تدخل الى بيته من يكره وتخرج من البيت بدون إذنه ورضاه وترفض فراشه وحيث أن المدعى عليها أقرت بأنه دخل البيت أشخاص بدون رضا زوجها وأنها تخرج مع بناتها بدون موافقة المدعي... وحيث ان الصلح قد تعذر وسنداً لأحكام الشرع قررت المحكمة رد طلب المدعية في دعوى النفقة الزوجية بوجه زوجها المدعي وألزمتها بإطاعته ومتابعة زوجها المدعي في دعوى الاطاعة وإلا اعتبارها ناشزاً والزمت المدعي بالانفاق عليها في بيته الزوجي بالمعروف عند تحقق إطاعتها له"- محكمة بيروت الشرعية السنية – 2019.


بحسب قرار هذه المحكمة، فقد ارتكبت الزوجة موبقة حين استضافت في بيتها ضيوفاً ارتأت أنها تريد استضافتهم، فبحسب "الشرع" يفترض بالزوجة أن تستأذن زوجها إذا رغبت في استضافة أحد ما في المنزل، وإذا ما أرادت الخروج مع بناتها، بل وعليها تلبية حاجاته الجنسية حتى وإن لم تكن ترغب. وخلصت المحكمة إلى الحكم على الزوجة بـ"النشوز" وإلزامها بطاعة الزوج. 



ببساطة، المرأة لا تملك قراراً في منزل يفترض أنها شريكة في المسؤولية فيه، وعليها دوماً طلب الإذن حتى وإن كان للخروج مع بناتها، والأدهى أنها لا تملك قرار جسدها، فبحسب المحكمة من حق زوجها ممارسة العلاقة الحميمة معها حتى وإن لم ترغب. هنا، يتضح لماذا قاومت السلطات الطائفية تجريم "الاغتصاب الزوجي" في قانون حماية المرأة من العنف الذي أقر عام 2013. حينها وقع جدل نيابي رفض خلاله حراس الطوائف الاعتراف بأن هناك اغتصاباً زوجياً، لأن محاكم الأحوال الشخصية ترى أن جسد المرأة هو ملك لزوجها لا قرار لها فيه.

 


الضرب ليس سببا للطلاق!


هذه الدعوى رفعتها سيدة لدى محكمة بعلبك الشرعية الجعفرية تشكو من عنف الزوج، فبحسب الدعوى، الزوج وبعد شهرين من الزواج بدّل مكان السكن ونقل الزوجة وأسكنها في منزل بعيد في حين كان هو في بيروت. كان يمنعها من زيارة أهلها وكان يضربها بشكل عنيف ومتكرر، وبعدما فاض بها تركت المنزل وذهبت الى منزل عائلتها "من دون إذنه" كما ورد في الدعوى. ما كان من الزوج إلا أن رفع على الزوجة المدعية دعوى "مساكنة" وقد أخذت المحكمة فعلاً برواية الزوج من أنه يعمل في بيروت ويترك زوجته في منزل بعيد في البقاع. 


لم يتوقف حكم المحكمة بتاتاً عند وقائع التعنيف والضرب والمنع من الخروج ولا لحقيقة إجبارها على السكن حيث لا تريد، فهنا لا قيمة لخيارات الزوجة ولا لرغباتها وهو ما انعكس بوضوح في قرار المحكمة الذي نص على: "وحيث أنه يجب على الزوجة إطاعة ومساكنة زوجها وحيث أن الزوج أبدى استعداده لما تفرضه عليه المحكمة في حال عادت الزوجة إلى منزلها وحيث أن الزوجة رفضت المساكنة مع عدم وجود موجب لرفضها مما يجعلها ناشزاً لا تستحق النفقة..." - محكمة بعلبك الشرعية الجعفرية – 2020.



الزوجة... وحالتها النفسية


أمام المحكمة الروحية للروم الأرثوذوكس رفعت سيدة دعوى فسخ زواج، حيث تروي أنها لاحظت تكراراً ما يشير إلى علاقة تربط زوجها بأخرى وقد أوردتها بالتفصيل، وتضيف أن الزوج توقف عن الإنفاق على عائلته. 
الصادم في حكاية الزوجة واقعة أن الزوج كان مصاباً بأمراض تناسلية ولم يخبر زوجته بل نقل المرض لها، ما سبب للزوجة مشكلات صحية، اضطرت على اثرها، إلى إجراء عمليات جراحية سببت لها تبعات صحية مزمنة. 
لم تنف المحكمة شكاوى الزوجة، لكنها عمدت إلى التشكيك بأهليتها النفسية، ومثل هذا التشكيك في أهلية المرأة نفسياً شأن يتكرر في مختلف المحاكم. 


تقول المحكمة: "وحيث أن المدعية تدعي بعد مرور 7 سنوات على عقد زواجها بأنها قد خدعت وغرر بها وفي حين أن الخداع هو التدليس وتلفيق الاكاذيب وتصوير الشيء على غير حقيقته وعلى ما يبدو أن المدعية تعاني من حالة نفسية حرجة وصلت بها الى هذا الدرك الخطير…".
إذا، بعد كل ما مرت به الزوجة التي أثبتت المحكمة بالنص أنها هي التي تعرضت للخداع إلى حد تهديد حياتها بسبب مرض زوجها الذي لم يخبرها عنه ونقل إليها، وبعدما اختارت أنها لا تريد استمرار ارتباطها بزوج خدعها وسبب لها أمراضاً صحية مثبتة ورفضت العودة إلى منزل الزوجية، تم التعامل مع الزوجة بوصفها مرتكبة لا ضحية.


المحكمة رأت أنه ليس من حق الزوجة بعد كل ما عانته أن تنفصل عنه بل اعتبرتها "ناشزاً" إن هي لم تعد إلى المنزل الزوجي: "وحيث أنها، أي المدعية متصلبة أمام أي مبادرة لتصحيح الخلاف وترميم الرباط الزوجي وحيث أن المعطيات تشير إلى نشوز واضح عند المدعية وبالتالي يقتضي رد طلب النفقة المقدم منها لعدم صحته وعدم قانونيته". المحكمة الروحية للروم الأرثوذكس- 2019.

 





الأب والسلطة الوالدية


في هذه الدعوى قضية زوجين تعارفا وتحابا وأاقاما علاقة ثم تزوجا وأنجبا 3 أولاد. بعد سنوات تكررت الخلافات وشكّ الأب ببنوة طفله الثالث، فأجرى فحص DNA وتبين أنه ابنه فقام بتسجيله. بعد مشكلات متكررة تقدم الزوج بدعوى بطلان زواج، بداعي عدم قدرة الزوجة على تحمل موجبات الزواج الأساسية لأسباب ذات "طبيعة نفسية"، في حين أن الزوجة قالت في الدعوى إنها مستعدة لاستعادة حياتها المشتركة، "شرط أن يمتنع عن ضربها والإساءة إليها". الزوج أصر الى دعوى البطلان فرفعت الزوجة عريضة ادعاء بالحكم بالهجر على مسؤولية الزوج.


التقرير النفسي الذي اعتمدته المحكمة يحمل عبارات ملتبسة عدة لجهة الأخذ بكلام الزوج وإهمال كلام الزوجة، فمثلاً لم تتوقف المحكمة عند حقيقة شك الزوج بأنه ليس والد األاده حتى ثبت له أنهم كذلك، فلماذا لم يتم السؤال عن اتزانه النفسي في حين تم تشريح وضع الزوجة التي بحسب الوقائع كانت متروكة وحيدة في المنزل وتمنع من زيارة الأهل!


تكرس المحكمة كما بقية المحاكم الطائفية مبدأ "السلطة الوالدية" بوصف الزوج والأب هو رأس العائلة: "السلطة الوالدية محصورة مبدئياً بالأب وهي صادرة عن الشرع الطبيعي وقد نظمها الشرع الوضعي بشكل يتلاءم مع مصلحة الأولاد وحاجاتهم التربوية والمعيشية".



كما يقول حكم المحكمة: "ثبت للقضاة أن الزوجة تتحمل مسؤولية تقويض أسس الحياة الزوجية المشتركة لأن الزواج يقوم على الشراكة الدائمة… الزوجة لم تتمكن منذ البداية من تنشيط العلاقة الشخصانية السليمة مع زوجها وتعود أسباب هذا القصور لما تعانيه من اضطرابات سلوكية يأخذ بها الاجتهاد الكنسي… كل ما أشير إليه سابقاً جعل قضاة هذه الهيئة يقتنعون ببطلان هذا الزواج بداعي عدم قدرة الزوجة على تحمل موجبات الزواج الأساسية لأسباب ذات طبيعة نفسية... القاعدة القانونية تقر مبدأ تربية القاصر لدى الطرف البريء وهو الزوج في حالتنا الحاضرة" - المحكمة الابتدائية الموحدة المارونية – 2018.



 

الأخلاق للزوجة... لا للزوج


بعد زواج استمر 16 عاماً أنجب خلالها الزوجان 4 أولاد، أظهر خلالها الزوج قصوراً هائلاً في المسؤوليات المادية، خصوصاً بعد انغماسه بلعب القمار، ما بدد الكثير من الأموال التي كان ينبغي أن تخصص لنفقات الأولاد والعائلة، وبعد تكرار الخلافات، أُجبرت الزوجة على ترك المنزل بعدما طردها زوجها. استاجرت منزلاً وعملت بالخياطة فكانت تساعد الزوج على سداد ديونه. طورت الزوجة عملها وفتحت دار أزياء من دون مساعدة الزوج الذي كان يمضي معظم وقته بشرب الخمر ولعب القمار. وكان الزوج يزور عائلته بشكل متقطع من دون أن يشارك في أي مسؤولية مادية أو معنوية تجاه الاولاد. وبعد خلاف على الحضانة شك الزوج ببنوة ابنه الأصغر. 


المحكمة قررت فسخ الزواج محملة الزوجة المسؤولية كاملة لأنها انجبت من خارج الزواج. يقول قرار المحكمة: "وحيث أن مسؤولية فسخ الزواج على ضوء ثبوت واقعة إنجاب الزوجة ولداً من رجل آخر تقع بكاملها على عاتق هذه الأخيرة الأمر الذي ألحق بالزوج الأضرار المعنوية والمادية… نقرر التفريق بين الزوجين وإسقاط حق الزوجة بالنفقة لعلة النشوز وإلزام الزوجة بدفع مبلغ بدل عطل وضرر مادي ومعنوي". القضاء المذهبي الدرزي - محكمة عاليه- 2019
.

في هذه القضية نجد كيف تقارب المحاكم المضامين "الأخلاقية" وتحصرها بالنساء. ففي حالة هذه السيدة لم يكن لدى المحكمة مشكلة في زوج مهمل يلعب القمار ولا يتحمل مسؤولية عائلته بل ويطرد زوجته التي أنفقت عليه وساعدته في سداد ديونه، بل المشكلة هي في سلوكيات الزوجة فقط وبالتالي يمنح الزوج براءة كاملة عن سلوكه وتحمل الزوجة التي عملت وأنفقت سنوات على عائلتها المسؤولية ويطلق عليها لقب "ناشز".



لكن من هن الناشزات؟ سؤال لا بدّ من التصويب عليه، من دون هوادة وطرحه في وجه المشرّعين، فعصرنا يعج بالمتغيرات والحيوية، ومن المهين أن تبقى كلمة "ناشز" ومعها سلسلة من العبارات والتوصيفات التي تجاري في دناءتها وصف عقد الزواج بالنكاح ووصف الزوجة بالموطوءة، فالتحول في المصطلحات والقوانين هو أساس التحول في العقل والثقافة.
ما سبق كان نماذج قليلة من مئات الأحكام التي تستحق التوقف عند كل واحدة منها لمعرفة حجم الظلم الذي تتعرض له النساء باسم القانون والطائفة في مختلف المحاكم في لبنان. وقد اخترنا قضايا حديثة حصلت في السنوات القليلة الماضية للدلالة على استمرار نمط قديم في القراءة والتفكير في عصرنا الحالي. 


لا شك في أن تعدّد قوانين الأحوال الشخصية ومصادرها وكيفية تطبيقها في المحاكم الطائفية، أدّى ولا يزال إلى انتهاك مبدأ المساواة بين المرأة والرجل، فضلاً عن تكريس ممارسات تمييزية ضدها وانتهاكات لحقوقها الإنسانية.



إجراءات لا تنتهي

لا يشكّل التشريع المصدر الوحيد لأوجه التمييز ضد المرأة، بل نتجت عنه عقبات إجرائية كثيرة، ومنها ارتفاع الرسوم وطول أمد القضايا وغياب المساعدات القانونية والمادية أثناء إجراءات الدعاوى، وهذه كلها عوامل أساسية منعت النساء من اللجوء إلى المحاكم الطائفية وتحصيل حقوقهن المحدودة أصلاً. 


علاوة على هذا، وعلى رغم وجوب التزام المحاكم والقوانين الطائفية بالدستور اللبناني، يتبين أن محكمة التمييز، وهي أرفع المحاكم المدنية في لبنان، تمارس رقابة محدودة جداً على إجراءات المحاكم الطائفية وأحكامها، مع الإشارة إلى أنّ المحاكم الروحية مستقلة إدارياً ومالياً عن الدولة، والمحاكم الشرعية والمذهبية، وعلى رغم ارتباطها التاريخي بتنظيمات الدولة القضائية، تتمتع بهامش واسع من الاستقلالية عن مؤسسات الدولة المدنية على الصعيد العملي وهذا ما يطلق يد تلك المحاكم في أخذ قرارات لا تراعي العدالة التي تستحقها النساء.
هل الدين متهم؟


محاصرة المرأة بأحكام مجحفة بوصفها "منزلة" و"إلهية" هي جريمة تاريخية، لأن العلاقات بين البشر مسألة محض دنيوية، لكن تأطير تلك العلاقات بمظلة دينية حصل انطلاقاً من عقلية مسكونة بهاجس الفحولة وعقدة السلطة والقوة. 
كل ما اتفق على اعتباره تفسيراً للنص المقدس هو اجتهاد شخصي، أنتجته نفوس مشوهة وعقول تقليدية، دمجت الديني بالسياسي، وخلطت الأعراف الاجتماعية بالنصوص الدينية، وكرست الدين بوصفه شأنا ذكورياً، المرأة فيه مجرد تابع أو أداة متعة وخدمة، فأطلقت سلطة الرجل وطوقت المرأة، حللت له وحرمت عليها أو حرمتها.



لبنان يشهد حالياً أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه مع شحّ الدولار وانهيار العملة المحلية وارتفاع معدل التضخم، ما جعل قرابة نصف السكان تحت خط الفقر. هذه الأزمة الكبرى مع ظروف الحجر الصحي بسبب جائحة "كورونا"، ضاعفت حالات العنف ضد النساء الى مستويات غير مسبوقة، بحسب ما رصدته الأجهزة الأمنية وهيئات حقوقية نسوية.
التخفيف من جرائم العنف ضدّ النساء يتطلّب تحولات جذرية، بداية من التصويب على معالجة مبدأ السلطة الأحادية داخل العائلة والتي يرأسها الرجل.